البؤس المكتسب...

البؤس المكتسب...

قبل عدة سنوات وتحديداً قبل سنوات الأزمة كانت حياتها مستقرة وبسيطة، حياة جميلة خالية من الهموم والكوارث الاجتماعية من فقر وفقد وعوز وعجز وجوع. لتنفجر الأزمة في آذار 2011 وينفجر معها تشوه حياة الآنسة نهاد، وتبدأ الفواجع بضرب استقرارها وبساطة عيشها فاجعة وراء أخرى.

تأثر كرة الثلج

إن كان وضع الآنسة نهاد قبل الأزمة ينحدر ببطء تدريجي يكاد لا يرى، فإن انفجار الأزمة جعل من انحدار حياتها وتفاقم سوئها أشبه «بكرة الثلج» المنحدرة من جبل ثلجي، تبدأ صغيرة وتكبر كلما تدحرجت ويزداد ثقلها وحجمها. ومن الأيام الأولى توضح جلياً أن ما ينتظرها وينتظر أهلها شيء لا يمكن وصف سوئه وتحمل شدة آثاره.
أتت المصيبة الأولى مبكرة حاملة معها خيال وتجلي المصائب التي تتبعها، في منتصف نيسان من العام 2011 تم فقد الأخ الأكبر للآنسة نهاد، هذا التغييب الذي يبدو وكأنه أسوأ شيء يمكن أن يحدث، وما إن مضت خمسة عشر يوماً حتى عاد أخوها جثة هامدة ليتضح أن أسوأ شيء يمكن أن يحدث لم يحدث بعد.

في أواخر عام 2012 وتزامناً مع تفاقم الأوضاع الأمنية تفقد نهاد أخويها في يوم واحد وإلى الأبد، لتتجرد عائلتها من أبنائها الذكور وتبقى هي وأمها وأبوها وأخواتها الإناث الثلاث مفجوعين بهول ما حدث لهم، ومرة أخرى يظنون أن هذه الفاجعة هي أسوأ شيء يمكن أن يحدث لهم، وما إن مضى على موت أخويها ثلاثة أشهر، حتى يزورهم الموت للمرة الرابعة زيارة قصيرة آخذاً معه ما تبقى لهذه العائلة من سند وأمان وطمأنينة. قُتل أبوها وقتل معه كل ما تبقى من مشاعر وأحاسيس، وجردت العائلة بالكامل من ذكورها، ليتكرر الشعور ذاته ولكن هذه المرة بشكل أشد عنفاً ويتضح تماماً أن أسوأ شيء يمكن أن يحدث لم يحدث بعد.

الحياة المعيشية..

بعد نزوحهم وخروجهم من مدينتهم، تاركين وراءهم رفات أحبابهم، أجبرت نهاد كونها الأخت الكبرى على دخول سوق العمل لتعيل ما تبقى من – التي يصعب تسميتها (عائلتها) – إن ما تبقى هو أثر عائلة، أو خيالها، أو أجساد من تبقوا أحياء بدون أرواحهم. تعمل نهاد مدرسة لغة عربية في إحدى مدارس الدولة، ولا يخفى على أحد حال المعلمين عموماً، ومدرسي الدولة خصوصاً، فالراتب الشهري الذي تتقاضاه اليوم يبلغ 127,000 ليرة فقط لا غير، هذا الراتب الذي لا يكفي لشيء يذكر في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة المخيف، وهذا ما أجبرها على العمل في إحدى ورشات الزراعة، هذه المهنة التي تتنافى وطبيعة جسدها الأنثوي، تتنافى مع طموحها ورغبتها، ولكن هول ما مرت به، وضغط الحياة المعيشية قتل طموحها، وقتل رغبتها، وقتل روحها وقتل إحساسها بنفسها.

مصدر شعورها بالرضا

بالرغم من كل المآسي التي مرت بها نهاد، وبالرغم من اغترابها عن ذاتها، وبالرغم من كل شيء حدث، إن ما يجعلها راضية وما يهون عليها حياتها، هو ما قدمته لأخواتها، كانت حريصة على عدم دخولهم سوق العمل وتشوهاته، كان هدفها أن تحظى هذه الفتيات بفرصة التعليم وحياة لا جوع فيها بالحد الأدنى، هؤلاء الفتيات الأربعة أصغرهن اليوم في السنة الجامعية الثانية. وبتفوق لا مثيل له بالنظر إلى الظروف التي خرجن منها، الأخت الثانية تخرجت من كلية الطب، والأخت الثالثة في السنة السادسة من نفس الكلية، والأخت الأخيرة في السنة الثانية في كلية الهندسة المدنية. إن ما يطمئن قلبها، ويحيي روحها هو النظر إلى إنجاز أخواتها وإحساسها بما قدمته لهن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1134