الموقف من السياسات أولاً!
إلياس زيتون إلياس زيتون

الموقف من السياسات أولاً!

وصلنا في المادة السابقة لخلاصة تفيد بأن العمل النقابي المجدي باتجاه عمال القطاع الخاص بقطاعيه المنظم وغير المنظم، يبدأ من خلال استعادة الدور الأساس للتنظيم النقابي المتمثل بالدفاع عن كامل الحقوق الطبقية وعلى رأسها الأجر العادل، وحق الاضراب، كأداة انتزاع الحقوق، وبأن الحلول التنظيمية ورغم أهميتها لا يمكن أن تكون بديلاً أو أولوية عن رفع وزن التنظيم النقابي ودوره المناط به.

نحاول في هذه المادة متابعة النقاش في موضوعة عمال القطاع الخاص وعلاقتهم بالتنظيم النقابي، للوصول إلى رؤى واضحة تجعل من النقابات تنظيماً قادراً على الوصول لهذه الشريحة الاجتماعية الطبقية الواسعة وتمثيلها بما يتناسب مع حجمها الكبير، وبما يتناسب مع الضرورة المتمثلة برفع أشكال الاستغلال كافةً، وسلب الحقوق التي يتعرض لها عمال هذا القطاع، سواء كانت عامة عبر السياسات الاقتصادية الحكومية التي أنهكت قواهم، ومنها على سبيل المثال: عمليات رفع الدعم المتلاحقة عن مجمل المنتجات والسلع المدعومة، مقللة بذلك القيمة الشرائية لأجورهم وتركهم في مواجهة النهب الدائم من قبل قوى المال، كاللعب بنسبة العرض والطلب على السلع المعيشية الضرورية والاحتكارات الكبرى والفساد، ومثال على ذلك فداحة الجور والاستغلال المستمر لقوة عملهم وشرائها بأبخس الأثمان من قبل أرباب العمل، الذين يراكمون ثرواتهم من عرق هذه الشريحة الكادحة وقرطهم لحقوقها المنصوص عنها دستورياً وقانونياً، وامتلاكهم لليد الطولى في المحاكم العمالية وعدم تسجيل العمال في التأمينات الاجتماعية، ولا حتى إبرام عقود عمل منصفة، والقائمة تطول وتطول.
بين الواقع العام والخاص
بما أن الاستغلال الذي يمارس على عمال القطاع الخاص يأخذ بعدين، أولهما عام والآخر خاص، فهذا يعني بأن المعالجة يجب أن تكون كذلك، فمن الناحية المتعلقة بالعام لا بد للتنظيم النقابي من إعادة قراءة موقفه من السياسات الحكومية التي تلامس بشكل مباشر وغير مباشر مجمل مصالح الطبقة العاملة وحقوقها، لعله يستدرك ما فاته خلال السنوات الطويلة الماضية. فالمواقف من القضايا الكبرى في أحسن الظروف خجولة أو متقوقعة بقواقع الشعارات والخطابات، وصناديق المساعدات والمؤتمرات الدولية، أو أنها تندرج تحت شعار: النأي بالنفس تارة، أو خلف الظروف العامة والأزمة وتداعياتها. تغاضى التنظيم النقابي عن قانون التشاركية، وافتقد لموقف كبير يكون بحجم قرارات رفع الدعم المتلاحقة، ونأى بنفسه عن الموازنات العامة الحكومية، فلا ناقش ولا اعترض ولا حسب، وتنازل طواعية عن المطالبة الحازمة والحاسمة بقضية رفع الأجور، وركن بها إلى أولي الأمر في هذه القضية، ولم يواجه بما يكفي التعدي المستمر للحكومة على مواد الدستور السوري، المتمثلة بعدم تعديل القوانين الثلاثة قانون العاملين في الدولة والقانون رقم 17 وقانون التنظيم النقابي، رغم انتهاء المهلة الدستورية للتعديل والعديد من القضايا الأخرى التي تستهدف الطبقة العاملة وسائر الكادحين والفقراء.
إن كل ما سبق وغيره جعل من الحكومة فِرعوناً لا يجد من يرده، فتمادت الحكومات المتلاحقة والمتغيرة شكلاً والمتفقة مضموناً في سياساتها المفقرة، وعززت مواقع الفاسدين والمحتكرين والناهبين الكبار، وجعلت من لقمة الشبع في آخر الليل حلماً يجتهد الكادحون لتحقيقه كرهاً.
علاقة العمال بالنقابات
أما في الخاص فنرى بأن التنظيم النقابي كان قراره متأخراً كثيراً بمتابعة شؤون العمال في القطاع الخاص، فقصد الشكل وتاه عن المضمون، وأقبل على الكم وأهمل النوع، فارتبك وارتجل وضاع في الأرقام والتنظيم، لذلك فهو مطالب اليوم بإعادة قراءة واقع القطاع وعماله الذين يصنفون وفق علاقتهم بالتنظيم النقابي لعدة فئات، فالأولى منهم والأوسع حجماً، هي الفئة التي لا تعلم بأن هناك منظمة شعبية خاصة بهم وإن وجد من يعلم بها فإنه يظنها خاصة بموظفي قطاع الدولة فقط، وأما الفئة الثانية فإنها تعلم بالمنظمة، ولكنها لا ترى فيها تمثيلاً لحقوقهم ومطالبهم، ولا دورَ لها أو ميزات تفييدهم بالشيء الهام، فهي بالنسبة لهم صندوق مساعدة اجتماعية متواضع، ومؤتمرات لا تخرج بقرارات تعكس إرادتهم، وهوية نقابية بصورة شخصية، وأمّا الفئة الثالثة فهم العمال الموجودون ضمن التنظيم النقابي وتنتشر لجانهم في المعامل والشركات ولهم من يمثلهم في النقابات ومكاتبها ومؤتمراتها، ولهؤلاء تصنيفهم أيضاً، فمنهم من جاء لعلاقته الوطيدة برب العمل وهم الكثرة، والصنف الآخر الذي أتى عبر العمال ودعمهم وحريتهم، ولهؤلاء العمال النقابيين شجونهم الخاصة ومشاكلهم التي يبدو بأنها مستعصية على الحل، في ظل الوضع المأزوم والمتراجع للحركة النقابية ودورها ووزنها، فتراهم يخوضون الإضرابات ويرفعون الأصوات ويتخذون المواقف.
المواقف الملموسة والحكومة
نستخلص من العرض المكثف والمختزل السابق: أن التوجه النقابي لعمال القطاع الخاص من أجل تمثيلهم بالدرجة الأولى وضمهم للتنظيم النقابي ثانياً يبدأ من برنامج نقابي طبقي وطني، يجعل من العام مدخلاً للخاص وعليه، فإن البداية تكون بالعودة لحقيقة أن الموقف من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة هو الذي يحدد موقف النقابات، ولا أحد يستطيع أن يقول اليوم بأن السياسات الاقتصادية الليبرالية للحكومة كانت في مصلحة الطبقة العاملة والفئات الفقيرة من الشعب، بل على العكس، إذ لا بد أن يكون الموقف النقابي واضحاً ومصحوباً بالتحرك الجدي والملموس، وأن يكون شاملاً بحيث يغطي مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية للطبقة العاملة، كالموقف من التعليم والصحة والقضاء والزراعة والصناعة، وعودة المهجرين والتعويضات والقوانين القديمة والجديدة وإعادة الأعمار... إلخ وبكل ما يمس معيشتهم وكرامتهم، حينها ستشعر غالبية الطبقة العاملة وأينما وجدت، بأن هناك منظمة شعبية طبقية تتحدث باسمهم، وتراعي مصالحهم، وتناضل من أجل حقوقهم ولقمة عيشهم، ومستقبل أولادهم.