البرد يلاحق العمال
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

البرد يلاحق العمال

تزداد ظروف العمل قسوة مع كل انخفاض جديد لدرجات الحرارة فأغلب المنشآت الصناعية والمعامل والورش تخلت منذ سنين عديدة عن تأمين التدفئة المناسبة لعمالها مما أثر بشكل كبير على واقع الإنتاج وصحة العمال معاً وقد ازدادت هذه الظاهرة اتساعاً بالتزامن مع حلول الشتاء الحالي.

 

يستطيع الزائر لمعامل القطاع الخاص ومشاغله وورشاته في ظل موجات البرد الشديد المتلاحقة التي لا ترحم أن يلحظ بسهولة بالغة انعكاساتها من خلال مظهر العاملين الذي لا يختلف عن مظهر المارة في الخارج فطاقيات الصوف واللحشات والجواكيت تغطي كامل أجسادهم لدرجة يصعب فيها تمييز الوجوه والأشخاص، خاصة في المهن أو المراحل الإنتاجية ذات الطابع الساكن سواء كان جالساً أم واقفاً مما أدخل العمال في موجات من أمراض البرد كالكريب والرشح والروماتيزم وأمراض الرئة فوسائل التدفئة غابت تماماً لأسباب كثيرة يجدها أرباب العمل مبررة وموضوعية في حين يرفض العاملون تلك المبررات ويعتبرونها تهرباً إضافياً من مسؤولية أخرى من مسؤوليات أصحاب العمل المتمثلة في تأمين شروط عمل صحية وكريمة.

القسم المدلل 

زرنا بعض المعامل المنتشرة بدمشق، لنطلع على الواقع عن قرب وكنموذج عما لمسناه خلال جولتنا، هو: ما شاهدناه في أحد معامل الخياطة في حي الميدان وهو عبارة عن منزل عربي كبير متكون من عدة غرف كبيرة جعلت كل غرفة فيه لمرحلة إنتاجية معينة وعلمنا من صاحبه أن وجوده هنا مؤقت ريثما يستطيع العودة إلى منشأته المتواجدة في منطقة يلدا، والتي هي بالأصل منشأة كبيرة مكونة من ثلاثة طوابق معدة ومجهزة بالكامل، حيث غادرها مع عماله في منتصف 2012 حاملاً معه ما أمكنه من الآلات والمكنات والمواد الخام ووسائل الإنتاج لهذا البيت المستأجر ليستمر في الإنتاج والتواجد في السوق حسب قوله ويبلغ عدد العاملين في المعمل 26 عاملا و19 عاملة يتوزعون على أقسامه المختلفة التي تتصف بالبرودة الشديدة إلا غرفتين كانتا تنعمان بالدفء وكأنهما خارج المعمل أصلاً.

الدفء للمكنات فقط!

إحدى هاتين الغرفتين هي بالطبع غرفة المكتب التي يوجد بها مكيف ومدفأة مازوت لا يتوقفان عن العمل وأما الغرفة الدافئة الثانية فهي أحد أقسام الإنتاج والسر في دفئها أن المكنات الموجودة داخلهما ذات حساسية عالية للبرودة حيث تتعرض المكنات لأعطال متكررة في حال تعرضت للبرودة الشديدة لذلك أمن لها التدفئة، من خلال وضع شوديرات الكوي في القسم ذاته بينما بقيت باقي الأقسام دون أية وسيلة دفء مما أثر بشكل مباشر على صحة العمال وخاصة النساء اللواتي يعملن على مكنات الدرزة والحبكة نتيجة تعرضهن طوال فترة العمل للبرد لدرجة المرض الواضح من خلال سعالهن وأصواتهن المخنوقة وذكرت لنا العاملات بأنهن يلجأن لغرفة الدلال (كما يسمونها) أي غرفة الكوي خلال فترة الاستراحة لمدة 30 دقيقة كي ينعموا بالقليل من الدفء المحرومات منه.

اعتبرنا مكنة يا أخي 

سألنا العاملين عن السبب الذي من أجله يحرمون من التدفئة فكان ردهم المباشر، أن صاحب العمل لا يريد أن يدفع تكاليف إضافية من أجلهم وهم الذين يعملون 12 ساعة بالبرد في حين هو مستعد لأنواع التكاليف الأخرى كافة، كارتفاع أسعار القماش والخيوط وأجور الشحن والمحروقات ولا تراه بتذمر أو يعترض بل يقوم برفع سعر المنتج بالمقابل ولكن حين يتعلق الأمر بالأجور أو تحسين ظروف العمل ومنها التدفئة شتاءً والتكييف صيفاً فهذا خط أحمر بالنسبة له حتى لو متنا من البرد وبأنه يستطيع ذلك بكلفة لا تتجاوز 100 ألف شهرياً سواء عن طريق الكهرباء أو المحروقات وهو مبلغ صغير بالنسبة لأرباحه الكبيرة (يا أخي يعتبرنا وحدة من هالمكنات الي ما بيسوالها البرد ويدفينا لنعرف نشتغل).

 تبريرات من أجل الربح

إنصافاً لصاحب العمل سألناه السؤال نفسه، فكان جوابه مجموعة من التبريرات على رأسها عدم توفر التيار الكهربائي، وإذا توفر فالخط لا يحتمل سحباً أعلى للطاقة، وبأن المولدة أيضاً لا تحتمل إشعال تدفئة كهربائية وأما عن مدافىء المازوت فهي كما قال: تشكل خطراً كبيراً على المنتجات وبأن إشعال أية نار في المعمل غير وارد نهائياً لا عن طريق المازوت ولا الغاز وأضاف (ليش في مازوت أو غاز بالبلد أساساً، وبتعرف حضرتك قديش عم يكلفني ليتر المازوت اللي يا دوب عم يكفي المولدة؟ ولا بدك سكر المعمل وقلع الشغيلة، يعني من وين بدهم يطعموا ولادهم؟ هن شوية برد كم يوم وبيخلصوا، أنا بمعمل يلدا كان عندي تدفئة مركزية لكل المعمل، وكان ليتر المازوت ب15 ليرة بس الله لا يوفق اللي كان السبب)

عمل كريم وأجر عادل

يستمر التعامل مع الطبقة العاملة على أساس أنها الحلقة الأضعف في السلسلة الإنتاجية، و(الكل بيتشاطر عليها ) وكأن أعباء الحياة وقسوة المعيشة غير كافية، حتى تأتي ظروف العمل لتزيدها بشاعة وبؤساً، وهي الطبقة التي تعاني الأمرين من سياسات الحكومة الاقتصادية والخدمية، فلا الأجور بقيمتها قادرة على تأمين ربع تكاليف المعيشة، ولا الخدمات متوفرة أو كافية لها، فأزمة الكهرباء والغاز متفاقمة، والأدوية لا يمكن شراؤها بسهولة، وبرميل من المازوت يحتاج لثروة، إن جُلّ ما يريده أي عامل على امتداد الوطن، أجر عادل وعمل كريم، فهل هذا مطلب تعجيزي؟ 

معلومات إضافية

العدد رقم:
790