عمال القطاع الخاص في الميزان الحكومي وزارة العمل تغازل أرباب العمل وتدير ظهرها للعمال

لم تسفر المباحثات الجارية بين وزارة العمل واتحاد غرف التجارة والصناعة واتحاد نقابات العمال إلى أي اتفاق يذكر بشأن تعديل قانون العمل الموحد المتعلق بعمال القطاع الخاص، وما يزال الصراع قائماً بين الأطراف الثلاثة حول ثلاث قضايا أساسية تتمحور حول مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، والمرسوم 49، والحد الأدنى للأجور، حيث يتجه موقف وزارة العمل إلى الأخذ بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، كأساس لتعديل قانون العمل بهدف تشجيع الاستثمار الخاص والتكيف مع متطلبات الشراكة الأوروبية، في حين تطالب غرف التجارة والصناعة بإلغاء المرسوم 49 الذي يحمي العامل من  التسريح التعسفي، بينما يعارض اتحاد نقابات العمال تعديل قانون العمل بالاتجاهين المذكورين حرصاً على مصالح الطبقة العاملة.

شريعة المتعاقدين..شريعة الغاب

   ينطلق مشروع تعديل قانون العمل من مبدأ أساسي قوامه «العقد شريعة المتعاقدين» ويبدو من المحادثات الجارية أن هناك تحالفاَ بين أرباب العمل ووزارة العمل (؟) لتمرير هذا المبدأ، في حين يقف اتحاد نقابات العمال موقف المعارض له  ويصر على إلغائه من مشروع القانون، لأنه يخفي في داخله عقد إذعان، ويؤدي إلى توسيع القطاع  الخاص الهامشي (غير المنظم) المنفلت من سلطان القانون وغير المتلزم بأحكامه، ويخشى أن ينسف الحقوق المكتسبة للعامل لأنه الطرف الأضعف دائماً، خاصة مع ازدياد عدد العاطلين عن العمل وغياب حق الإضراب، وبالتالي فإن العامل سيكون جاهزاَ لأي شرط يمكن أن يفرض عليه من رب العمل.
  السيد إبراهيم اللوزة عضو المجلس العام لاتحاد نقابات العمال يقول: «إن العقد شريعة المتعاقدين يعني تحويل العامل إلى سلعة خاصة مع ازدياد البطالة، حيث أثبتت تجربة القطاع الخاص في سورية، بأن أرباب العمل كانوا دائماً يتهربون من مسؤولياتهم مثل زيادات الأجور وتسجيل العمال لدى التأمينات الاجتماعية وعدم منحهم الضمان الصحي. . إلخ. لذلك يجب  أن تكون القوة للقانون، لأن القول بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين يخفي في طياته عقد إذعان للعامل، بسبب عدم تساوي وضع كلا الطرفين، واضطرار العامل إلى بيع قوة عمله بأي ثمن مع ارتفاع الأسعار والفقر» مشيراً بأن العقد شريعة المتعاقدين يمكن أن يكون صحيحاً في عقود المقاولة والبناء أما عند تطبيقه على العمل فإنه يحول العامل إلى سلعة خاضعة للعرض والطلب، مع العلم أن التشريعات العمالية في جميع البلدان وحتى الرأسمالية قد تجاوزت تلك المقولة واتجهت لوضع ضوابط وأنظمة تحمل صفة القانون و الإلزام.
  لكن الجانب الأخطر في مبدأ العقد شريعة المتعاقدين هو تعارضه مع اتفاقيات العمل العربية والدولية التي وقعتها سورية، وفي حال إقرار تلك الشريعة في قانون العمل الجديد، فإن ذلك سيسيء إلى سمعة سورية دولياً وعربياً نظراً لتوقيعها على أكثر  من 60 اتفاقية عمل عربية ودولية، والتي تؤكد بمجموعها على حق الإضراب للعامل وعقود العمل المشتركة وتسوية منازعات العمل وحق التقاضي .. . وهنا يشير السيد إبراهيم اللوزة « أنه في حالة تم الأخذ بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، فإن سورية ستكون على اللائحة السوداء لأنها وقعت 60 اتفاقية عمل عربية و دولية، فمثلاً اتفاقية العمل العربية بشأن مستويات العمل تنص على وجوب أن يتضمن قانون العمل تنظيم تشغيل العمل والأجور والرعاية الصحية للعمال ووقايتهم من أخطار العمل».
  والحقيقة أن أغلب أصحاب العمل في القطاع الخاص كانوا يتهربون دائماً من هذه الاتفاقيات ولايطبقون الحد الأدنى منها، حيث يوجد مليونا عامل محرومين من التسجيل في التأمينات الاجتماعية بسبب تهرب أرباب العمل، مما يؤدي إلى خسارة مؤسسة التأمينات الاجتماعية لمليارات الليرات سنوياً، إضافة إلى حرمان العمال من 25% من أرباح المنشأة كما نص عليه المرسوم 112 وتعديلاته، وعدم التزام معظم أرباب العمل بتطبيق المادة 65 التي أوجبت على صاحب العمل أن يوفر وسائل الإسعاف الطبية والخدمات الطبية.
  ويشير اللوزة إلى «خطورة سن تشريع محلي متناقض مع الاتفاقيات الدولية والعربية الموقعة لأن المعاهدات الدولية أقوى من القوانين المحلية، وبالتالي إذا كان هناك قضاء مستقل، فإنه سيحكم على أساس الاتفاقات الموقعة وليس على أساس التشريع المحلي» مستغرباَ في الوقت نفسه وجود قانونين للعمل، أحدهما لعمال القطاع العام والآخر للخاص، إذ أن أغلب قوانين العمل في العالم تكون موحدة للعاملين في القطاع العام والخاص معاً، أما جعل القطاع الخاص خاضعاَ لقانون مستقل خاص به فهو محاولة منه للتهرب من استحقاقاته تجاه العمال، مشيراً بأن قانون العمل يجب أن يكون مأخوذاً من النظام العام بما يضمن كرامة العامل وحقوقه.
المرسوم 49 والسير وراءَه

  النقطة الخلافية الثانية هوالمرسوم 49 الذي ينص على أنه «لايجوز لأي رب عمل أن يصرف أي عامل من الخدمة دون علمه ودون موافقة مسبقة من (لجنة قضايا التسريح) وفي حال تم التسريح تعسفياً دون التزام رب العمل بالشروط المذكورة، فإنه يحق للعامل ـ بقوة القانون ـ أن يحصل على كامل تعويضاته، إضافة إلى نسبة 80% من أجره طيلة حياته».
  الآن تطالب اتحادات غرف التجارة والصناعة بإلغاء هذا المرسوم، ففي التعديلات التي طرحها اتحاد غرف التجارة السورية لمواد القانون جاء مايلي: «لوحظ أن مشروع تعديل القانون لم يتعرض صراحة إلى إلغاء المرسوم 49 لعام 1962 الخاص بلجنة قضايا التسريح والتي تبت في الحالات الفردية لفصل العمال، وكأنه منصرف إلى إبقائه نافذاً أو بجعله في حالة من تنازع  القوانين بين أحكامه ونصوص مشروع قانون العمل الموحد المقترح، لذلك يجب أن يأتي الإلغاء صريحاً لتجنب إثارة المشاكل والإرباكات...».
  المفارقة في موقف اتحاد غرف التجارة والصناعة هي المطالبة الصريحة بإلغاء المرسوم 49 أي العودة بالتاريخ إلى الوراء 44عاماَ عندما أصدر البرجوازي الوطني خالد العظم المرسوم الذي يحمي العامل من التسريح التعسفي مقابل إيقاف العمال لإضرابهم، ليؤسس بذلك عقداً اجتماعياً جديداً، ينظم العلاقة بين أرباب العمل والعمال من خلال القانون والمؤسسات، رغم أنه لم يكن في ذلك الوقت حزباً ـ اشتراكياً ـ حاكم يملك أغلبية مطلقة في مجلس الشعب باسم العمال والفلاحين، ويدعو إلى اقتصاد سوق اجتماعي في مرحلة لاحقة، لكن البرجوازية المستحدثة التي لم ترث عن برجوازية العظم أدنى أخلاقياتها، تريد أخذ كل شيء دون أن تساهم بأي شيء، وهنا يشير السيد إبراهيم اللوزة: «بأن حق الإضراب للطبقة العاملة قد أصبح مطلباً غير قابل للتأجيل مع الجنوح المتزايد لأرباب العمل نحو اقتصاد السوق الحر» مضيفاً «بأن اقتصاد السوق الاجتماعي لم يكن سوى قناع يختبئ خلفه أرباب العمل وحلفاؤهم في السلطة» متسائلاً: «لماذا تحفظ حقوق العمال في البلاد الأجنبية والعربية، بينما يجري عندنا ضرب مصالح العمال بحجة تشجيع الاستثمار، لافتاً، بأن هذا الأمر في حد ذاته عائق أمام الاستثمار، لأنه بغياب المدخرات والقوة الشرائية لايمكن تأمين النمو الاقتصادي وبالتالي بناء اقتصاد متين، وهذا ما أدركته الدول الرأسمالية، حيث قامت بوضع سلم متحرك للأجور بهدف الحفاظ على القوة الشرائية من أجل تصريف المنتج على عكس ما يجري عندنا».
  وأشار اللوزة إلى أنه ينبغي خوض معركة حقيقية في هذا الاتجاه لأن المرسوم 49 لم يأت إلا بعد دماء من جانب الطبقة العاملة وأي إلغاء لهذا المرسوم يعني العودة إلى تلك المرحلة التي غلبت عليها الصراعات الدموية والتفكك الاجتماعي.

الحد الأدنى للأجور.. أين المكسب

  تم تحديد الحد الأدنى للأجر في مشروع قانون العمل الموحد الجديد بـ 3500 ليرة سورية شهرياً بدلاً من 3486 ل. س شهرياً كما كان سائداً في القانون القديم، لكن هذا الحد قد لايكون نهائياً، إذ تم رفع الحد الأدنى لأجور عمال القطاع الخاص بـ 40% تقريباً، وهذا مايعتبره مدير العمل في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مكسبا ًعماليا، استطاعت الوزارة تحقيقه وانتزاعه من أرباب العمل، لأنه عندما يسجل رب العمل عماله بالتأمينات الاجتماعية فغالباً ما يسجلهم بالحد الأدنى لأجورهم، وبالتالي عندما استطاعت الوزارة رفع ذلك الحد فإنها ألزمت رب العمل بدفع تأمينات أكثر وهذا فيه مصلحة للعامل ورب العمل بنفس الوقت. حقيقة لاندري كيف توصلت وزارة العمل إلى مثل هذا الرقم، ولا إلى ماذا استندت في حسابه، فهل يتوافق هذا الرقم مع الحد الأدنى لمستوى المعيشة مثلاً، وهل استندت إلى حسابات الخطة الخمسية العاشرة التي تزعم أنها تهدف إلى تخفيض عدد الفقراء وتحسين مستوى المعيشة؟ أم أنها تجاهلت كل ذلك واستندت إلى حسابات أرباب العمل فقط؟
  الواقع الملموس والدراسات المحلية تؤكد أن الحد الأدنى الضروري لمعيشة أسرة وسطية العدد(5,6) فرد شهرياً قبل ارتفاع الأسعار الأخير كان بحدود 18 ألف ليرة سورية، أي حصة الفرد الواحد شهرياً كان بحدود 3215 ل. س، وليس 2000 ل.س كما تفترض الخطة العاشرة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار ارتفاعات الأسعار الأخيرة منذ تذبذب سعر الصرف للدولار إلى رفع أسعار البنزين  والأسمنت، لتوقعنا ازدياد الحد الأدنى المفترض لمستوى المعيشة من 18 ألف ل. س إلى 24 ألف ل.س، أي أن حصة الفرد الواحد شهرياً ستكون بمقدار 4200 ل. س، وإذا أسقطنا هذا الرقم على الحد الأدنى للأجور في مشروع قانون العمل الجديد والذي يصل بعد الزيادات إلى 4805ل.س شهرياً، فهذا يعني بكل بساطة أن كل عامل لدى القطاع الخاص يعيش بالحد الأدنى الضروري لمستوى المعيشة يقابله (4,6) فرد يعيشون بـ600 ليرة سورية شهرياً. فأين المكسب العمالي في  ذلك، وكيف تتوافق حسابات وزارة العمل مع حسابات الخطة الخمسية العاشرة لجهة تخفيض عدد الفقراء إلا إذا كان المقصود بالتخفيض هنا ليس انتزاع تلك الشريحة من الفقر، ورفعها إلى الأعلى، بل جعلها في الدرك الأسفل؟

خار ج الحسابات

   في الاقتصاد السوري قطاع خاص غير نظامي  يعمل فيه حوالي 35% من قوة العمل السورية أي أنه يحوي قرابة الـ (1.75) مليون عامل، هذا القطاع الهامشي غير منظم ولا يملك أي ترخيص إداري ولا يملك العاملون فيه أي ضمانات قانونية، كما تشير الإحصاءات إلى وجود حوالي (150) ألف منشأة حرفية وصناعية في البلاد عدد المسجل منها والذي ينتسب عماله إلى التأمينات الاجتماعية حوالي (30) ألف منشأة أي (20%) منها فقط، في حين يبقى الباقي خارج قوسي القانون والتأمينات! والقضايا الإشكالية الثلاث السابقة أي (عقود العمل، القضاء، الحد الأدنى للأجور) تمس هذه الشريحة مباشرة أكثر من غيرها في القطاع الخاص، فهل سيصل أطراف الصراع الثلاثة إلى حل حقيقي لما هو عالق حول تلك القضايا؟