...حاصر حصارك لا مفر

...حاصر حصارك لا مفر

الأزمة العميقة، الاجتماعية السياسية الاقتصادية التي دفعت بالجماهير إلى الشارع لتطرح مطالبها الاقتصادية والسياسية، ونتج عنها حراك مجتمعي واسع باحثاً عن حلول آمنة تُخرج البلاد من عنق الزجاجة التي وصلت إليه نتيجة الاحتقان والتذمر الواسعين على مدار عقود من الزمن...اد الوطني وتطويره وتحسين أدائه..      

 

سببت معظمها السياسات الاقتصادية الليبرالية التي أنتجتها الحكومة السابقة وفريقها الاقتصادي، فقد لعبت تلك السياسات دوراً مهماً في تطوير وتفعيل الحركة الشعبية بألوانها وأشكالها المختلفة التي عبرت عن نفسها بمطالب سياسية واقتصادية مشروعة، بعد أن جرى تغييبها ومصادرتها، وبالمقابل تم الانفتاح الكامل على قوى السوق (رجال الأعمال) الذين عاثوا في البلاد والعباد فساداً ونهباً، مسلحين بالقوانين والتشريعات والحماية، حيث تمت شرعنة أكبر عملية نهب للاقتصاد الوطني، وهي التي عمقت الأزمات داخل المجتمع من فقر وبطالة ونسب نمو متدنية، وتنمية غير متوازنة لا تعبر عن الاحتياجات الحقيقية للشعب السوري، وقد شكل ذلك النهب خرقاً سياسياً واقتصادياً خطيرين للدولة والمجتمع، تمكنت من جرائه قوى السوق المحلية المرتبطة بالمراكز الرأسمالية العالمية، من توجيه الاقتصاد الوطني باتجاه القطاعات الخدمية والريعية والمصرفية حيث أنتج ذلك سريعاً تعاظماً غير مشروع في الربح وتمركزاً للثروة بأبشع صوره، والابتعاد بالاقتصاد الوطني عن الإنتاج الحقيقي الصناعي والزراعي، اللذين جرى إنهاكهما عبر توجهات وخطوات مدروسة، وذلك بتبني تجارب بعض البلدان التي سبقتنا في تطبيق السياسات الليبرالية باعتبارها تجارب (رائدة) حققت نسب نمو عالية (ماليزيا، تونس، تركيا) سرعان ما تبين فشلها، وإنها فقاعة تنموية عمقت الفقر والبطالة، ونفوذ القوى الاستعمارية الرأسمالية (الشركات المتعددة الجنسية).

ما نود تأكيده هو أن السياسات الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية التي جرى تطبيقها في بلادنا، والتي يُشن عليها الآن هجوم واسع من جانب الكثيرين الذين كانوا بالأمس القريب من أشد المدافعين عنها، ويُنظرون لفوائدها (العظيمة) التي سيعيش الشعب السوري من خلالها في (العسل) كما يقال.. إن هذه السياسات الكارثية قد ربطت اقتصادنا الوطني إلى حد بعيد بالاقتصاد العالمي (الرأسمالي) مما جعله رهينة له وضعيفاً في مقاومته ومواجهته، حيث يتبين الآن ومن خلال مجريات الحصار الاقتصادي الذي تفرضه القوى الإمبريالية، مدى التأثير الذي أحدثته في الاقتصاد الوطني، وباتت النتائج المرة واضحة، ولن يجنيها سوى شعبنا العظيم حصاراً جائراً أول من سيصيبهم هم الفقراء وذوو الدخل المحدود، ولن يطال أولئك الناهبين والفاسدين. لقد باتت الدعوة على أشدها الآن من أجل شد الأحزمة على البطون من أجل مواجهة الحصار الاقتصادي والتهديد العسكري الذي تلوح به القوى الإمبريالية، وتدعو له بعض قوى المعارضة في الخارج، والتي تريد تكرار التجربة العراقية في الركوب على الدبابة الأجنبية أو تكرار التجربة الليبية.

إن السؤال المطروح اليوم: أي بطون ستشد عليها الأحزمة؟ بطون الذين نهبوا البلاد والعباد، وجعلوا الاقتصاد الوطني (كالعصف المأكول)، خائر القوى، أم بطون الذين أنهكهم الفقر والبطالة والغلاء الفاحش؟

لقد مرت شعوب كثيرة قبلنا بتجارب الحصار الاقتصادي والسياسي والعسكري، واستطاعت الإفلات منها وتجاوزها، وإن بتكاليف باهظة دفعت فاتورتها الشعوب المقاومة حيث تفجرت طاقاتها وإمكانياتها الحقيقة في ظل الحصار المفروض عليها من خلال أوسع وحدة وطنية التي تتعاظم في لحظة الحصار، وسد المنافذ التي يمكن للعدو أن يتسلل منها وعبرها للداخل.

إن قوى النهب والفساد هي المنافذ الفعلية التي استطاع العدو الإمبريالي- الصهيوني أن ينفذ من خلالها ويحقق خرقه من أجل الوصول إلى تلك اللحظة التي تمكنه من تحقيق أهدافه الاستراتيجية السياسية والاقتصادية التي رسمها، والتي جزء منها تقسيم المنطقة على أساس طائفي وقومي.

أصبح الخطر يهدد الوطن بشكل جدي، ولمواجهته لابد من إجراءات جذرية وسريعة تؤمن الشروط الضرورية للمواجهة والتصدي، وفي مقدمة ذلك تأمين الموارد اللازمة من خلال تأميم الأموال المنهوبة من الاقتصاد الوطني ومحاكمة الناهبين والمسببين الذين أوصلوا بلادنا إلى ما نحن عليه، وفي مقدمتهم الحكومة السابقة وفريقها الاقتصادي، وهذا يكون بالتوجه الفعلي إلى الشعب السوري والتصالح معه من خلال تأمين وتحقيق مطالبه  السياسية والاقتصادية، حتى يتمكن من التصدي للهجمة ومواجهة الحصار والتلويح بالعمل العسكري مواجهة حقيقية وكسر آليات الحصار الجائر المفروض الآن.

إن محاصرة الحصار، أو كما أسماها الاتحاد العام لنقابات العمال في تقريره العام الأخير (الحرب الكونية)، يكون بإعادة النظر الجذرية بمجمل السياسات الليبرالية الاقتصادية من حيث انطلقت، وهي إضعاف القطاع العام الصناعي والزراعي والخدمي، وتهميش دوره وتركه لأمراضه ولناهبيه والفاسدين داخله.

جاء في تقرير مؤتمر الإبداع الوطني والاعتماد على الذات المنعقد عام 1978: (إن توطيد وتوسيع ودعم القطاع العام وربطه بالمصالح الواسعة للجماهير الشعبية هو الطريق الأساسي لتلبية حاجات التطور الموضوعية، وهو الذي يربط الأهداف العامة الوطنية بالأهداف الشعبية الطبقية، ومن ثم لابد أن يتجسد الحل الصحيح والمعالجة السليمة لصعوبات القطاع العام بإبراز أفضليات القطاع العام أكثر فأكثر).

ومن أجل ذلك حدد التقرير مجموعة من الإجراءات المفترض العمل على أساسها أهمها:

حماية القطاع العام من المزاحمة الرأسمالية الداخلية والخارجية.

حماية الحقوق الوطنية عند التعامل مع الاحتكارات الأجنبية وتقليص هذه العلاقات إلى أضيق الحدود الممكنة.

الاستفادة الكاملة من الطاقات الإنتاجية في المعامل ومكافحة الهدر في المواد الأولية والطاقة ومعالجة مشكلة تضخم الأجهزة الإدارية ودوران اليد العاملة والهجرة الكبيرة للاختصاصيين والمهارات المختلفة إلى الخارج.

تحقيق التوازن في تطور الأسعار والأجور وتطبيق نظام حوافز متقدم يتناسب مع ارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة الإنتاج وإنتاجية العمل.

الاهتمام بحل المشكلات التي تعاني منها الطبقة العاملة وسائر الكادحين كمشكلة السكن والنقل.

تطوير وتحديث أساليب الإدارة في المعامل على أساس الحساب الاقتصادي والتخطيط العلمي واستخدام وسائل الرقابة الذاتية والرقابة الشعبية في جميع مراحل عمليات الإدارة والإنتاج وإصدار قانون للاستثمارات الصناعية...

إن هذه المبادرة النقابية التي جرت بعقد مؤتمر الإبداع والاعتماد على الذات وما نتج عنها من توصيات وقرارات، كان يمكن لها أن تحمي الاقتصاد الوطني من الكوارث التي حلت به لاحقاً، وكان يمكن لها أن تقود عملية التنمية الحقيقة التي ستعزز الصمود الوطني وتنقله إلى مرحلة المقاومة للمشاريع الإمبريالية المطروحة وتقطع الطريق على القوى الداخلية المرتبطة بالمشروع الأجنبي التقسيمي والتفتيتي، ولكن كل ذلك لم يحدث، والأسباب أن القوى الوطنية والشريفة وفي مقدمتها الحركة النقابية، كانت مقيدة بآلاف السلاسل التي تمنعها من المبادرة باتجاه حماية الاقتصاد الوطني ومصالح الطبقة العاملة.

 

إن الحركة النقابية يمكن أن تلعب دوراً رئيسياً إلى جانب كل القوى الوطنية في كسر الحصار وحصاره بالاعتماد على طاقات الشعب السوري الجبارة وعلى إمكانيات الطبقة العاملة السورية في حماية الاقتص