مجد فضة في خضم اللحظة السورية: الآخر هو الجحيم
 خليل صويلح خليل صويلح

مجد فضة في خضم اللحظة السورية: الآخر هو الجحيم

 أحد أكثر نصوص نتالي ساروت غموضاً وجاذبية «من أجل نعم، من أجل لا» (1982) نقلها الممثل الشاب إلى الخشبة في أولى تجاربه الإخراجية. بعدما تولّى الدراماتورج وسيم الشرقي صياغته بالعامية السورية، قدِّم العمل في «دار الأوبرا» موجّهاً بوصلته بشكل موارب إلى الجرح المفتوح منذ أكثر من ثلاث سنوات.

اختار مجد فضة (1986) نصاً إشكالياً لتوقيع تجربته الإخراجية الأولى في المسرح. ذهب الممثل السوري الشاب إلى أحد أكثر نصوص نتالي ساروت (1900 ـ 1999) غموضاً وجاذبية وإشراقاً. إنّه «من أجل نعم، من أجل لا» (1982) الذي صاغه الدراماتورج وسيم الشرقي بالعامية السورية. العرض الذي استضافته «دار الأوبرا» في دمشق أخيراً، يوجه بوصلته إلى اللحظة السورية الراهنة بشكل موارب، لجهة حدة الصراع بين خندقين.

الخلاف بين صديقين حميمين ينطوي على سوء فهم لفظي أولاً، إذ يبدو الصراع غامضاً ومشوّشاً، حول عبارة عفوية قالها الثاني للأول بنوع من التهكم والتعالي. لكن هذه العبارة ستعتمل في ذات صديقه، ما يدعوه للابتعاد تدريجاً، بعدما كساها بريش أوهامه، ذلك أنّ الحوار سيتفجّر لاحقاً بينهما بحدّة، ولن تتمكن الجارة الشابة التي استدعاها الصديق المكلوم كي تحكم بينهما من فض الاشتباك، لأنها لم تفهم سبب المشكلة في الأصل، أو أنها لم تلتقط نبرة العبارة ومدلولها، كما وصلت إلى الصديق.

هكذا تتصاعد حدة الخلاف وسوء الفهم، لتنبثق مفردات تكون بمثابة الجدران الاستنادية فوق أرضٍ زلقة، مثل «فوقية»، و«دونية». تتكشّف المسافة الفاصلة بين الأنا والآخر، بسطوة اللغة وحدها، كأن كل ما يحدث في الظل، أو يتراكم، من دون اكتراث، سببه سوء الفهم اللغوي بين البشر، أو على نحو أكثر دقة، فحص ما وراء اللغة. وهنا يكمن المأزق الذي طالما اشتغلت نصوص نتالي ساروت عليه بمهارة، كما في مسرحيتها القصيرة «الصمت» (ترجمة ريم منصور الأطرش)، إذ تلغي الأسماء لمصلحة الأرقام، في إشارة موحية لتلاشي خصوصية الكائن البشري واغترابه في عالم متغيّر، وعدم الاعتناء بما يمور في الداخل من انفعالات وشكوك وحقائق، تنطوي في العمق على محاولة لاستعادة بهاء الذات، والكرامة المهدورة، وخيارات الفرد، مهما كانت هذه الشخصية هامشية في نظر الآخر.

في العرض، يلتقط مجد فضة هذا الالتباس بدقة ويعمل على تعزيزه، خطوة وراء خطوة، عبر ميزان دقيق. وإذ بنا ننخرط في هذه اللعبة العبثية التي تستدرج ما هو غائب عن السطح أو جرى تغييبه بحكم التكرار أو اعتباره غير مهم. الرهان على سوء الفهم اللغوي يبلغ حدته في طريقة الأداء (مجد فضة وكامل نجمة ولمى الحكيم) فوق خشبة متقشفة (كرسيان وطاولة وسجائر وزجاجة ماء وولاعة لا تعمل). هذه الأغراض يستعملها الصديق الأول لإخفاء ارتباكه، أو لالتقاط الخيط في مواجهة الآخر الذي يبدو مطمئناً إلى موقعه، فيخونه الإقناع في مبارزة صديقه الهامشي والعدمي. مرة أخرى، يتوضح المأزق لغوياً بين الاثنين، حين يتخندق الصديق الثاني خلف اللغة العمومية أو الواقعية والملموسة التي يتكئ عليها في مسلكه الحياتي، فيما يراهن الأول على تقشير طبقات اللغة من الداخل بوصفها فخاخاً مؤجلة، أو ملمس نبات القرّاص الشائك، وفقاً لما تقوله ساروت. عتاب ينتهي إلى اعترافات مدمرّة تبطن ضرباً من الكراهية النائمة في الصدور والنفور المستجد والضغينة المستترة، رغم الصداقة الطويلة بين «عبود» و«سلام» (في النص الأصلي لا نعثر على أسماء للشخصيات).

هكذا يتفجّر ما تحت الرماد في العلاقة، على هيئة اتهامات متبادلة في معنى صلاحية البقاء، لأحدهما دون الآخر. نحن إزاء معركة إذاً، وليس مجرد عتاب بين صديقين، معركة حول «هناك على هذه الأرض ما يستحق الحياة» أم لا؟ باقتباس من محمود درويش. ينبذ الأول صلاحية الفكرة، ويجادله الثاني بأهمية التجربة أولاً، وليس الفرجة على المنظر من النافذة. لا يُهزم الأول أمام إغراء فكرة الثاني، بل يعترف بأنه يعيش حياته حين يخرج من قفص حياة صديقه المبتهج بمسراته الصغيرة، فيتطور الأمر بينهما إلى اتهام الثاني له بالغيرة منه. الآخر هو الجحيم، هذا ما تنتهي إليه العلاقة، فهناك مسافة شائكة بين من يقول نعم، ومن يقول لا، في لغز أبدي، يصعب معرفة جوهره، من دون التواصل بين الطرفين، مهما كانت الطريق وعرة إلى تحقيق ذلك.

المغامرة لا تنتهي باختيار نص معقّد في عمارته مثل «من أجل نعم، من أجل لا»، بل في تجسيده على الخشبة بإقناع ودراية ورهافة، وهو ما تمكّن منه أعضاء هذه الورشة في رهان على مناوشة نصوص لطالما كانت في الركن المهمل للمسرح السوري. بالنسبة إلى بعضهم، فإنّ هذه التهويمات اللفظية مجرد لغو ستنبذه الخشبة والمتلقي معاً.

لكنّ مجد فضة ممثلاً ومخرجاً، استدرجنا بمكر إلى فخاخه، عبر عتبات دراماتورجية مدروسة بإتقان وبراعة، محصّناً عرضه بفهم عميق لطبقات اللغة ومناوشتها على مهل عبر تفكيك عناصرها، ووضعها تحت المجهر، كما ابتكرتها ساروت بلا صراخ، وإن كانت من ضفة المحكية السورية التي تطلّبت نبرة مغايرة في الأداء. نخرج من قلب العتمة، ونحن نفكر في تنظيف اللغة مما تراكم فوقها، ومعانقة الجوهرة المخبوءة في الداخل، فالخطأ والصواب معضلتان لغويتان في المقام الأول.

 

المصدر: الأخبار