البلاد التي نحبها

البلاد التي نحبها

تشترك غالبية مدن العالم في هذا العصر بانقسامها فعلياً إلى مدينتين، واحدة للأغنياء، تسطع أضواؤها من بعيد، شوارعها معبدة ونظيفة، منازلها واسعة بنوافذ عريضة يلعب فيها الهواء وحدائق مزينة بالشجيرات والأزهار. والأخرى للفقراء، تمتلك كل الصفات المعاكسة للأولى، لا كهرباء ولا إضاءة، بيوتها متراصة فوق بعضها البعض، لا تهوية ولا شمس تدخلها..

تتأرجح نسب هذا الانقسام بين ارتفاع وانخفاض في مختلف المدن. ولكنها تميل في غالبيتها إلى اتساع مساحة المناطق التي يعيش بها الفقراء نسبة إلى تلك الخاصة بالأغنياء. ويتسارع تغير هذه النِسب، يوماً بعد آخر، فتتزايد رقعة الفقر وتتنوع أشكاله وتتضح معالم عالمين مختلفين، متجاورين في كل مدينة.

العاصمة التي تغرق في شبر ماء

ثمة مدن لا تشبه نفسها. مدن تجاوز الفقر فيها اسمه وتعدى كل تصوّر. مدن تحتفظ لنفسها بتاريخ عميق وعريق، ولكنها من أول مرة تستقبل فيها أمطار الشتاء تغرق في شبر ماء! دمشق، عاصمة الثقافة والعراقة والتاريخ تصبح مستنقعاً والشتاء لم يحضر لزيارتها بعد، اكتفى بإرسال بشائره وتحذيراته فقط. ولكن ماذا يفعل الفقراء أمام تحذيراته تلك، وهم لا حول لهم ولا قوة أمام البرد والمرض والجوع.. وتطول السلسلة.
ينظر البعض إلى السماء بعيون مبتهلة متمتماً «الله يبعث الخير»، وهو في قرارة نفسه يعي تماماً ما يعنيه قدوم الشتاء، في بيته المستأجر الرطب الذي لا تدخله شمس، حيث لا كهرباء ولا مازوت ولا غاز، لا مصدر للدفء. تلتحف عائلته ببطانيات «المعونة» التي حصلوا عليها أثناء اشتعال الحرب. انتهت الحرب، وبقي البرد ينخر في العظام.
يتقن من يسير في شوارع العاصمة دمشق فنون المناورة في السير، جرياً والتفافاً وقفزاً فوق برك الماء المتجمعة بعد المطر. فَقَدَ المطر تلك الهالة الرومانسية التي احتلها بوصفه مصدراً للخير والجمال والحب.

«سق ونق»

على صفحات التواصل يكتب أحدهم «هل نحن مواطنون أم رهائن؟؟». الحديث في السرافيس ووسائط النقل المختلفة أصبحت عرفاً يومياً، يفش «المواطن السوري خلقه»، المواضيع مشتركة مع غالبية مستخدمي النقل العام، الوقوف لساعات على دور الخبز من أجل ربطتي خبز في غاية السوء لا تكفي لعائلة باتت تعتمد على الخبز رغم رداءته بشكل كبير لأنه ليس لديها إمكانية لتأمين غذاء آخر بسبب ارتفاع أسعاره وهذا يشمل أغذية اعتاد السوريون على تناولها سابقاً وكانت تعتبر رخيصة نوعاً ما، ولكن حتى هذه، لم يعد يقدر عليها كثير من العوائل، إضافة إلى عدم توفر الغاز والكهرباء للطبخ.
تحت جسر الرئيس، رجل يشحذ ثمن ربطة خبز لأولاده الجائعين، يتمتم آخرون بالشكر لأنهم لم يصلوا بعد إلى هذه الحالة: «حالنا أفضل من حاله»، رغم يقين الجميع بأن أحوالهم متشابهة.
ينشغل الناس بتلبية احتياجات الحفاظ على البقاء فقط، يستمعون إلى قصص الآخرين وكأنها قصصهم، وهي فعلاً تكاد أن تكون قصة واحدة، لا تختلف عن بعضها سوى بتفاصيل صغيرة، يحاولون التكيف مع كل وضع جديد يفرضه عليهم أولو الأمر وأصحاب القرار، والوضع يسوء يوماً بعد يوم، فليس ثمة إرادة عند أصحاب القرار بتحسينه أو بإحداث تغيير نحو الأفضل.
وليس لدى غالبية السوريين ما يفعلونه سوى «السق والنق» تعبيراً عن رغبة في التغيير والحصول على العيش الكريم في بلادهم، وهم محقون، فالبلاد بلادهم، وخيراتها حق لهم كمواطنين وينبغي أن تعود إليهم. وهذا متجذر في اللاوعي لديهم، لذلك لا يمكن انتزاعه منهم وسيحصلون عليه ولو بعد حين.

حقي وحقك!!

يتجادل الناس في الأماكن المختلفة مع بعضهم البعض. وكلٌ يعتقد أنه يدافع عن حقه هنا. في ساعات الذروة وعندما تغص أماكن الازدحام بالبشر صباحاً وهم ذاهبون إلى أعمالهم ومساء وهم عائدون منها، تجري مجادلات ونقاشات كثيرة، سائق التكسي يجمع بعض الركاب ويوزع ما سيتلقاه من أجرة عليهم، فهذا أفضل من انتظار راكب وحيد ربما لن يأتي فيبقى أولاده بلا طعام ذلك اليوم. ورغم التخفيض فلابد من مشادّة ما مع أحدهم. يؤكد السائق أن عمله منذ الصباح وحتى وقت متأخر من الليل لا يكفي عياله، فضلاً عن الأعطال التي تصيب سيارته وغلاء أدوات إصلاحها.. بينما يصر الراكب أنه يعمل دوامين وعياله أيضاً غير مكتفين، أجار البيت، تأمين الأكل والطبابة وتكاليف المدرسة.. إلخ. يتحدثان لغة واحدة ولكن باتجاهين متعاكسين. في الحقيقة يمكن للمستمع بانتباه لهذا الجدال أن يعي ببساطة أن الطرفين مظلومان ومعهما حق. تكمن المشكلة في عدم إدراكهما أن حقوقهما ليست عند أي منهما، بل عند طرف ثالث خفي أوقع الاثنين بمثل هذه المعادلة الوهمية الجائرة. عند من يملك القرار والمساهم في تحديد مستوى معيشتهم. يحدث مثل هذا الخلط عند كثيرين في مواقع أخرى فالمدير يتجادل مع الموظفين، والأستاذ في مدرسة مع مديره والطلاب مع استاذهم وهكذا.

البلاد الواجهة!!

يعرف السوريون أن ثمة ضيف مهم قادم من بلاد بعيدة ليزور بلادهم، البلاد التي يحبونها ولكنها ليست لهم، من مجرد رؤيتهم لنظافة شوارعها التي تحل فجأة في وسط العاصمة على غير العادة!!
لا يتوانى أي سوري عن الاحتفاء بضيوفه، ولكن تثير مشاهد الاهتمام والعناية المفاجئة للشوارع والأماكن الرئيسية غصة في الحلق يكاد يختنق بها، ألا نستحق نحن أبناء البلد مثل هذا الاهتمام، ولِمَ تغرق مدينتنا بشبر ماء في يوم مطير؟ بينما يمكن فعلاً أن تصبح أفضل وأجمل؟ ثمة من يريدنا أن نتعود على الذل، وينهي على ما تبقى لنا من كرامة إنسانية.
يمكن أن يؤدي التلاعب في حياة الناس وشدة الضغط عليهم في جعلهم مغيبين وعاجزين عن السيطرة على تفاصيل عيشهم، مما يسهّل عملية التحكم بهم إلى حين. ولكنها من جهة أخرى ستدفع بهم إلى التحول نحو أفعال حقيقية ينالون بها حقوقهم ويعيدون للبلاد ألقها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1154