الفن والعلم.. تأمل ضروري (2/1)
حسين خضّور حسين خضّور

الفن والعلم.. تأمل ضروري (2/1)

سِمَة المرحلة الانتقالية من عالم قديم إلى عالم جديد، تكمن بأنها «صلة وصل» تعبر عن الجانب الخاص من ديالكتيك المعرفة، فإن المَأْلُوف أو الاِعْتِيَاديّ يتحول إلى غَيْر مَأْلُوف أو غَرِيب، وعليه تظهر «حالة مركّبة» تدفع بحركة التطور ضمن اتجاهين متعاكسين وغير متضاربين، فمن جهة تهبط إلى منابع، مصادر، وجذور العالم القديم، ومن جهة أخرى تستمر بالصعود نحو العالم الجديد، رويداً رويداً تتشكل في الأجواء غيوم متفرقة وافرة في إمكانيتها، وكلما استطاعت تلك الأخيرة أن توحد من صفوفها، وتعمل على تنظيم نفسها، كلما اقترب زمن هطول خيراتها المعرفية.

ستأخذنا هذه المادة إلى قسم صغير من منابع الفن في العالم القديم، وستقدم مساهمتنا في نقد الفن، واقتراحاتنا الأولية لخروجه من أزمته.
نعتقد أن الأكثرية الساحقة من الناس وصلت إلى أرضية مشتركة بمشاعرها الحانقة على النتاجات الفنية السائدة، وأصبحَ لديهم تصور أكثر مما مضى، بأن الفن السائد لا يعبر بأي شكل من الأشكال عن الواقع، بل يَتَعَدَّى عليه من خلال تزييفه وتلويثه، بأفكاره ومشاعره. وأنكى من ذلك أن الفنانين المتغطرسين يقولون: (هذا ما يريده الناس)، فهم بتلك العبارة يعبرون بقصد أو عن غير قصد عن الجملة ذاتها التي يرددها السياسيون الفاسدون.
إن بدايات المرحلة الانتقالية الثالثة، تقريباً منذ عام 1975، حملت معها الغموض بالتدريج، فأصبحت الأجواء ضبابية، ومن العسير على الوعي الاعتيادي تفسير ما يجري من تحولات. وتلك الأخيرة لم تقتصر على اختلال الوعي الاعتيادي، إنما أيضاً شملت الأوساط العلمية، والفنية، وما شابه، وبالتزامن مع ذلك، عصفت الرياح بالنسيج الثقافي الشعبي. فطفت على بحار حياة الناس جملة واسعة من المشاعر الغريبة، وغير المألوفة، ما دفع بهم، وبالأخص الفئة الشابة منهم، للبحث عن نتاجات فنية صادقة توضح الغموض.
مع مرور الوقت، تَبَيَّن أن تربة الفن تعاني من نقص في الخصوبة، ولم تنبت منها بعد سوى بعض النتاجات الفنية المعبرة بصدق عن أحاسيس الناس. وعليه صال وجال في بحار الناس عدد كبير من المثقفين المتحذلقين، والفنانين المثاليين بأفكارهم، والذاتيين بمشاعرهم، فقدموا إما نتاجات شحيحة بمضامينها، ومعقدة بأشكالها، أو نتاجات سطحية بمضامينها، وساذجة بأشكالها، «فانمحت الحدود بين الفن الجاد والسطحية، بين الفن الأصيل والفن المزيف وسادت الفوضى، وارتكبت أخطاء كثيرة وفظة تحت شعار السعي إلى العصرنة والتجديد» (1). (فواز الساجر).
وعليه ظهرت حالة عزوف عن الفن السائد، وأيضاً عن ذاك الذي نصّب نفسه بديلاً، وتحركت الناس، وقسم من العاملين بالمجال الفني الرافضين لواقع عملهم، للعودة إلى نتاجات سابقة حقيقية تنبض بالحياة.
بكل الأحوال إن العودة إلى النتاجات الفنية السابقة أمرٌ ضروري، «يشكل الفن مع الكلام وسيلة للاختلاط، وبالتالي وسيلة للتقدم، أي إنه الوسيلة التي تدفع حركة البشرية إلى الأمام ونحو الكمال. فالكلام يساعد الأجيال الأخيرة على معرفة كل ما عرفته الأجيال السابقة بتجاربها وأفكارها، وكذلك كل ما يعرفه أفضل الناس الطليعيين المعاصرين، وأما الفن فيساعد الأجيال الأخيرة، أن تعاني من تلك الأحاسيس التي عانى منها الناس من قبلهم، ويعاني منها أفضل الناس الطليعيين. ومثلما يتم تطور المعارف وارتقاؤها بحلول المعارف الأكثر صدقاً ونفعاً محل المعارف الباطلة والمضرة بعد إزاحتها، كذلك تماماً يتم تطور الأحاسيس بوساطة الفن، إذ تزاح الأحاسيس الوضيعة الأقل خيراً ونفعاً لصالح الناس، وتحل محلها الأحاسيس الأكثر خيراً ونفعاً لهذا الصالح، وفي هذا تكمن غاية الفن ومهمته، ولذلك يكون الفن - من حيث مضمونه - أفضل بقدر ما يحقق هذه المهمة أكثر، ويكون أسوأ بقدر ابتعاده عنها» (2). (ليو تولستوي).
قد نبتسم بحسرة، إذا تأملنا للحظة هذه الرؤية على ضوء حركة الزمن، فمن منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، والأحاسيس لم يتم الارتقاء بها، إنما انحدرت بشدة، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات الجادة خلال هذه المرحلة، لكن الديكتاتوريات الخشنة التابعة للمركز الرأسمالي، والناعمة في المركز الرأسمالي الاحتكاري على حد سواء، همّشوا، وأعاقوا وجودها، كي يبقى الفن السائد مهيمناً على حياة الناس، ومحدداً لخيارات أجيال الفن الجديدة. ولكي يشتتوا طاقات تلك الأخيرة، صنعوا لهم مساحة ملونة زعموا بأنها حرة، وتفتح لهم السبل لتطوير الفن السائد من خلال إعطائهم القدرة على التمييز بين الفن الجيد والرديء، فتشكل تناقض وهمي حول حقيقة الفن، فمن جهة صُنف الفن الرديء أنه «الفن التجاري»، وأطلقوا على أوساطه لقب «الشعبوية»، ومن جهة أخرى صُنف الفن الجيد أنه «الفن الخالد»، وأطلقوا على أوساطه لقب «النخبوية». ومن هنا يتضح أن العلم يقف إلى جانبنا إذا ما قلنا إن الفن السائد في الزمن الراهن لا يمكن إصلاحه أبداً، وإننا نطالب بتغييره ثورياً، وأن يزاح عن ساحة التاريخ.
«إن عالم الاجتماع يعرف أن هناك وضعيات لا يمكن أن تسعفها أي محاولات لتحسينها، إن سلم تقسيمها لا يمتد بين علامتي جيد - رديء، بل بين علامتي صحيح - غير صحيح» (3). (برتولد بريخت).
بناءً عليه يمكننا القول، إن الفن في زماننا إما (فن صحيح) أو (فن غير صحيح). ربما نسأل كيف يمكن التفريق بينهما؟
وما هي اقتراحاتكم للخروج من أزمة الفن الحالية؟ هذا ما سنتطرق إليه في الجزء الثاني لهذه المادة.
(1)
«ستانسلافسكي والمسرح العربي» تأليف: فواز الساجر / ترجمة: فؤاد المرعي / دمشق، منشورات وزارة الثقافة 1994.
(2)
«مَا هوَ الفَن؟» تأليف: ليو تولستوي / ترجمة: محمد عبدو النجاري/ دمشق، دار الحصاد للنشر والتوزيع 1991.
(3)
«نظرية المسرح الملحمي» تأليف: برتولد بريخت / ترجمة: جميل نصيف / بغداد، دار الحرية للطباعة 1973.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1142
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين1/أكتوير 2023 17:23