خيارات في زمن التحولات

خيارات في زمن التحولات

على موائد الغالبية العظمى من السوريين تتقلص الأنواع والكميات المقدمة في الوجبة الواحدة، وتنسحب بعضها شيئاً فشيئاً لتختفي قسرياً وبشكل نهائي رغم محبة أفراد العائلة لها! ورغم شهرتها الواسعة بالغنى والتنوع، فالمائدة السورية لم تشتهر بتعدد أصناف الطعام وتنوعها فحسب، بل بتقديمها مأكولات لذيذة وشهية وبنكهاتها المتنوعة والمختلفة، يشهد لها بذلك غالبية متذوقيها من غير السوريين.

في مفارقة صارخة وموجعة بآن معاً، وبينما يواجه السوريون (في الداخل) معركة تأمين الغذاء الكافي للبقاء فقط على قيد الحياة أمام الجوع الذي يعضهم بأنيابه، تزداد شهرة الطعام الذي تفنن السوريون في المهجر بتقديمه وتسويقه كأحد مصادر دخلهم في بلاد الغربة.
يعيش الناس اليوم حالة فريدة من القهر والاستلاب، وصل السوريون فيها إلى حافة الجوع بالمجمل. يعجز التعبير عن شدة سوء الأوضاع، لدرجة أنه لا يمكن لأي كلمات مهما كانت بليغة أن تصف الوقائع والمشاهدات اليومية للغالبية العظمى من السوريين. مشاهد تنضح بألم، أصبح لشدة فظاعته وقبحه كاوياً وصارخاً وحقيقياً لدرجة مرعبة!

نحن لسنا شحاذين!

قرب إحدى الحاويات في منطقة الجسر الأبيض بدمشق، تقف امرأة ستينية في إحدى الصباحات تبحث في بقايا الطعام الموجودة في الحاوية! بالقرب منها يفتح شاب عشريني باب سيارته ويضع كراساته بداخلها، يلفته وجود المرأة وما تفعله ويخمن من لباسها وطريقة وقوفها الخجولة أنها إحدى السيدات السوريات الوقورات اللواتي جار عليهن الزمن في الفترة الأخيرة وبات يرى الكثير منهن في حالة مشابهة. يمد الشاب بنية حسنة يده إلى جيبه ليعطيها بعض النقود، تجفل المرأة وتحدثه بصوت مرتعش ولكنه قوي النبرة يلفت انتباه المارة «أنا ما ني شحادة، ولا بحياتي رح أشحد، رجع مصاريك ع جيبتك حقي مو عندك» يفاجئ تصرفها الشاب والمارة الذين يستمعون لهذا الحوار. تكمل السيدة بعيون مغرورقه ما كانت تفعله ويكمل المارة مسيرهم!
يلخص كلام هذه السيدة موقفاً حقيقياً يمثل العديد من السوريين الذين أنهكتهم الحرب والأزمة وجرى التهام حقوقهم، وربما فقدوا بعض الكبرياء ولكنهم لم يفقدوا كرامتهم، «نحن لسنا شحاذين، ولن نكون!».
إن قسوة المشهد السابق تدعو البعض إلى الاعتقاد أنها مجرد مبالغة تشبه مشهداً في رواية أو مسلسل، ولكنه الواقع الذي أصبح فاقعاً لدرجة لا تصدق أحياناً.

مشاهد متكررة

عند تقاطع جسر فكتوريا في قلب العاصمة دمشق، يمر رجل ساهياً وشارداً، محاولاً عبور الشارع، فيفاجئه صوت زمور عالٍ لسيارة كادت أن تدهسه. يصرخ السائق في وجه الرجل «كنت رح تموت، العمى ضربك ما بتشوف.!». ولكنه يسكت بعد لحظة متفاجئاً بسلوك الرجل وكلامه، فالرجل الذي يبدو أنه استيقظ من شروده للتو صرخ قائلاً «ولك ضربني، ولك ادعس وخلصني من هالعيشة خلصني من التعب والمرض والقهر ..... إلخ»، حاول بعض المارة تهدئة الرجل ولكنه استمر بسرد قصته المتكررة عند كثيرين آخرين: «ما عد قدرنا على شي، لا آجار البيت ولا عأكل الولاد ولا عالدوا ولا..، لشو عايشين».
تتكرر المشاهد، وتزداد تفاصيلها مأساوية، ويزداد معها وضوح الفرق بين التصورات النظرية عن القهر والحرمان ومختلف المشاعر الأخرى وبين معايشتها واختبارها بصورة حقيقية ومباشرة. في مواجهة الجوع، تنال النساء الحصة الأكبر، بحكم موقعهنّ في العائلة كأمهات وربات للبيوت. تبكي إحداهن في كل مرة تحضر الطعام لأطفالها وزوجها المريض بالسكري، ليس فقط بسبب قلة الحيلة، كما تقول، بل بسبب قلة الطعام الممكن تقديمه لهم، والخوف من الآتي!

ثمة من يريد إذلالنا

يتحجج القائمون على الأمر بالحرب والعقوبات ويلقون اللوم في كل صغيرة وكبيرة تجري في البلاد على الخارج ومؤامراته، حتى وإن كان في هذا الكلام بعض الصحة، إلا أنه ثمة مشكلات يمكن معالجتها وإيجاد بعض الحلول لها عبر إجراءات صغيرة بإمكانها أن تحل بعض المسائل العالقة وتخفف من ثقل الأزمات الداخلية والمعيشية، وبالتالي تخفف من حدة الضغط على الناس وتعطيهم فرصة ليلتقطوا أنفاسهم. ولكن ثمة من يريد تعقيد الوضع أكثر، لأن تقديم أية حلول مهما كان صغرها من شأنه أن يؤثر على مجرى التطور العام لحل الأزمة في البلاد، وهو ما لا يريده المتشددون، لذلك يجري وضع الناس بمواجهة مشكلات تفوق قدرتهم على الاحتمال، مشكلات تجري مراكمتها لتصبح كتلة متشابكة الخيوط يصعب تفكيكها وحلها.
عندما يتعرض الكائن الحي للخطر، فإنه يتخذ أحد أشكال الاستجابات، فهو أما يهرب مسرعاً للبحث عن ملجأ يحميه، أو يقوم بمهاجمة مصدر الخطر ليحمي نفسه! يختلف مفهوم الخطر، أو العوامل المهددة للحياة، عند البشر سواء كانوا أفراداً أم مجتمعات، وتختلف أيضاً الطريقة التي يواجه فيها الناس الشعور بتهديد حياتهم أو بقائهم، كما تختلف أنواع الأخطار والتهديدات، فهناك الخطر العسكري والسياسي والاقتصادي، وهناك أشكال أخرى منها الترهيب والتجويع والظلم الاجتماعي.. إلخ. وقد يمتد أحد هذه الأخطار إلى سنوات ويهدد الحياة بصورة تدريجية وغير مباشرة، وقد يكون واضحاً وصريحاً مثل الحرب.
وعادة ما يتّبع البشر آليات متنوعة لحماية أنفسهم، منها أخذ مسافة من الحدث والابتعاد، وصولاً إلى الإنكار، يجري ذلك دون محاولة فهمه واستيعابه والمشاركة في إيجاد مخارج حقيقية وجذرية. ولكن ما يحدث بعد اجتياز تجربة كبيرة وحاسمة ومعاناة شديدة وخوف وحزن وألم.. إلخ، قد تجعلهم يعيدون حساباتهم. ففي حالات الاستجابات لخطر جماعي كالجوع مثلاً، تدخل الكثير من العوامل والمتغيرات، وما يكون مخيفاً في المرة الأولى، غالباً يصبح أقل إثارة للقلق في المرات التالية.

جرعة أمل مفرطة

يحتاج الإنسان للتماسك في وجه الظروف والتهديدات وللاحتفاظ بمسافة من المشاعر السلبية قدر المستطاع وعدم الغرق بها، من أجل تكوين رؤية واضحة، وفهم الظواهر المحيطة ودرجة تداخلها وتعقيدها، بهدف البحث عن الحلول الأكثر جذريةً وعمقاً لإيقاف المآسي التي لم يعد يجدي معها التأجيل والتسويف. ما يجمع الأغلبية من السوريين، نتيجة المعاناة والجور والظلم والتدهور المستمر على كل الصعد اليوم هو شعار المطالبة بالحل السياسي لإنهاء الأزمة وإنهاء مآسيهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1138