«المادة البشرية الجديدة» بين لينين وتركة الليبرالية

«المادة البشرية الجديدة» بين لينين وتركة الليبرالية

في عملية الانتقال التي يشهدها العالم يشهد الصراع على الوعي أهمية أساسية أكثر من أي مرحلة سابقة، انطلاقاً من أن شكل الهيمنة في العقود الماضية فرض هذا الوزن النوعي للوعي. وهذا الإنتقال (البناء بالترافق مع الصراع) الذي يعني ضمنياً التحوّل في نمط الحياة، أو النمط الحضاري، يستند إلى العنصر البشري الذي هو تركة المرحلة السابقة من عقود الليبرالية ونمط الحياة والتفكير المهيمنَين. وهذا شديد الأهمية كونه يحسم التطور أو التقهقر في عملية الانتقال تلك.

لينين حول المادة البشرية

التجربة السوفياتية وفّرت الكثير من المادة الدراسية التي لم يستنفدها التاريخ بعد. ومن هذه الدروس تعقيد وصعوبة عملية تربية وبناء العنصر البشري. بعض العناصر التي يمكن أن نجدها بشكل مكثف في مقال لينين «من الأفضل أقل على أن يكون أحسن» (جريدة البرافدا، عدد 49، 4 آذار، 1923). ويشدد لينين على مسألة التربية (الموقف من العالم، والعقلية، والذوق والعادات، والانضباط الممارسي اليومي، والعلاقة بالعالم- بالذات وبالآخرين، إلخ)، لأن هذه المادة البشرية هي القاعدة المادية لبناء العالم الجديد. ويقول لينين «إن الأمور في جهاز دولتنا لعلى درجة من السوء، لكيلا نقول إنها مقيتة، بحيث ينبغي لنا بداية أن نفكر عن كثب في كيفية مكافحة عيوبه التي- ولا ننسين هذا- تعود إلى الماضي الذي، رغم قلبه، لم يقض عليه بعد، لم يصبح بعد من ميدان ثقافة ولّت منذ زمن بعيد. وإني أطرح هنا مسألة الثقافة على وجه الضبط، لأنه يجب في هذا الصدد ألّا نعتبر من الأمور المحققة إلا ما دخل في الثقافة، في الحياة اليومية، في العادات». موقف لينين يؤكد أن النموذج الحضاري الجديد لا ينفصل عن «عادات الحياة اليومية». فلا يمكن بناء النمط الجديد بمادة بشرية ذات تربية «قديمة». وسنركز في هذه المادة تحديداً مسألة الفئات المتعلمة والإدراية، وكذلك بعض عناوين التربية القديمة كعنصر حاسم خلال عملية البناء والمواجهة نفسها.

التفارق بين المرحلتين

ما يهم أن نلفت إليه الإنتباه هو التفارق بين المرحلة الراهنة ومرحلة لينين. وعي التفارق ضروري كون التحول الذي طال العنصر البشري منذ لينين يجعل من عملية «علاج» القضية متزامناً مع عملية الانتقال الثوري والسلطة، وليس بعدها. لماذا؟ لينين يعالج قضية العنصر البشري من عدة جوانب. الجانب الأول هو العقلية الطبقية للقوى البشرية، وضمناً الموقف من العالم، ومسألة التنظيم المرتبطة بها. والثاني هو قضية التعليم. أين التفارق إذاً؟ لدى بناء المجتمع الجديد، كان لدى لينين، من جهة، مشكلة علاقة الثقافة والمثقفين والمتعلمين بالقوى العاملة، الإيجابي منها والسلبي. ومن جهة أخرى، مشكلة ملامح تربية المجتمع ككل وضمناً الطبقة العاملة، بشكل عام.

العنصر الإيجابي

الإيجابي هو أن فئة المثقفين والمتعلمين والإدرايين، يؤمّنون الخبرات في مجالات مختلفة، التقنية والإدارية والتنظيمية، في عملية بناء المجتمع القادر على إدارة نفسه ديمقراطياً، بما تجاوز شكل الديمقراطية البورجوازية وجهاز دولتها (هذا الاشتراك أساس في النموذج الحضاري البديل، «صناعة التاريخ»، على النقيض من حضارة الاستهلاك- التغريب). وهذه الخبرات كانت محصورة لدى فئات طبقية تنتمي بمجملها للطبقات المسيطرة. أما اليوم، وبعد عقود من الهيمنة الهجينة، حصل خرق في مجالات التعليم والعمل، فتوسعت القوى المتعلمة والإدارية والتنظيمية والعلمية وغيرها مما هو ضروري لاشتراك أوسع القوى من تحت في إدارة المجتمع، ولم تعد حكراً على حاشية القوى المسيطرة. هذا العنصر كان حاسماً في سنوات البناء الأولى، والتي ناقشها لينين حين تلمّس البلاشفة الصعوبات التي شكلّها قلة وجود هذا العنصر، فيقول لينين «جهاز للدولة الجديد لا نملكه، بل نملك عدداً قليلاً مضحكاً من عناصره»، مما فرض قضية علاقة الطبقة المثقفة بالطبقة العاملة، ومسألة الانتقال الثوري نفسه، وهذا تطلب شكلاً محدداً من التنظيم في جهاز الدولة، كـ«هيئة التفتيش العمالي والفلاحي» مثلاً. تلك الهيئة من ضمن أجسام رقابية أخرى فرضت رقابة على الفئات ذات الخبرة من قبل «البروليتاريا» التي تعتبر أكثر ثورية من تلك الفئات «المثقفة» (ليبرالية الهوية الفكرية والتربية والذوق والنفسية).

العنصر السلبي

لا يوجد العنصر الإيجابي المذكور أعلاه بانفصال مطلق عن الجوانب السلبية التي عالجها لينين. فتوسع العنصر الإيجابي المذكور، سار جنباً إلى جنب مع توسع العنصر السلبي الذي، وحسب لينين، تلخّص بالعقلية (الموقف من العالم) والنفسية والأخلاقيات والانضباط الذي مثلته التربية السابقة (البورجوازية وما قبل البورجوازية) والتي تلعب دوراً كبيراً في بناء نمط الحياة الجديد، الذي هو بالنهاية مسألة ممارسة يومية وعادات. وهذه العقلية لم تكن وقتها محصورة فقط بالقوى «المثقفة»، بل طالت أيضاً القوى الاجتماعية الواسعة. وأشار لينين إلى عدة ظواهر، منها، الاستهتار، الكسل والموقف السلبي من العمل، التعب الزائد لدى مختلف القوى، التذبذب والفوضوية لدى البورجوازية الصغيرة، وغيرها الكثير من الظواهر التي تؤخر إطلاق طاقة المبادرة والبناء في المجتمع. ويقول لينين، بأن عدم حل هذه القضايا يجعل الكثير من الجهد ضائعاً، لا بل يفتح الباب لعودة انقضاض العدو الطبقي، والمقصود هنا العادات القديمة، الذي هو في نقاشنا نمط الحياة الحضاري الاستهلاكي وممارساته. وحل هذه القضايا يتطلب التربية من خلال الممارسة، والتي تسمح «باكتشاف الذات» والفعالية الذاتية كما يشير لينين، وهذا يتطلب «التعلّم، ثم التعلّم، ثم التعلّم... أن يتحول العلم إلى عادة، جزءاً لا يتجزأ من الحياة... الامتحان، الفهم، التأمل، الإحساس... ألا نبخل بالوقت»، والابتعاد عن «العجلة... والبخل في الوقت» وألّا نحلّ «مشكلة بالثقافة بالقوة والهجوم المفاجئ أو بالعزم»، والابتعاد عن «التعويض عن المعرفة بالعجلة المفرطة والكميّة».

وعلى الرغم من توسع «القوى المتعلمة والإدارية»، ولكننا أيضاً أمام توسع للعنصر السلبي. فنمط الهيمنة الهجين عمّق من عادات ونمط حياة وثقافة البورجوازية الصغيرة في العالم كله. ومن جانب آخر، هناك الخراب الذي يوسع بعض الظواهر «القديمة»، كالكسل الناتج عن التعب المزمن والتذبذب، في ظل دمار وبطلان نمط الحياة الاستهلاكي- الفرداني- البورجوازي الصغير، التي تصل حد العدمية كقاعدة للتدمير والتفتيت. بالتالي، إذا كان نقاش لينين لاحقاً «للإمساك بالسلطة» فإنه اليوم سابق «لتشكيل الكتلة التاريخية».

خلاصات مكررة

هذه الإشارة إلى نص لينين هي محاولة لتوضيح مسألة المشروع الحضاري النقيض كقضية ملموسة، لا تنفصل عن الحياة اليومية وعادات وأذواق البشر، التي هي اليوم في حالة تجاوزت عادات البورجوازية الصغيرة لتصل حد العدمية ومستوى «الوجود الرث». ومن نافل القول، إن الوجود الرث (كتوصيف لسلوك البروليتاريا الرثة) كان بالنسبة لثوريي تلك المرحلة خطيراً على بناء الجديد. وبالتالي هذا يفرض بضرورة أن مشروع الإنقاذ والمواجهة لا يمكن أن ينحصر بممارسة «القوة والهجوم المفاجئ والعزم» (تتمثل هذه القوى بالتوازن العسكري والاقتصادي للمحور الصاعد) بل يجب أن يتعداه إلى قضايا تحويل «العادات، والعقلية، والموقف من العالم»، إلى قضية «تربية جديدة». ولا نقصد، ولا لينين قصد ذلك، بأن العنصر البشري الجديد هو حرفياً جديد، بل هو العنصر البشري القديم نفسه، الذي يتحول في عملية «اكتشاف ذاته»، عبر النطق باسم الجوهر الجديد (الوجود لأجل الآخرين، الوجود الجماعي) لهذا «العنصر البشري القديم»، وإزالة «شكله القديم» (الوجود لأجل الذات، الوجود الفرداني).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1131
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:00