ساعة الرمل الرأسمالية: جدول الأعمال البربري بين مورزا وغرامشي (1)

ساعة الرمل الرأسمالية: جدول الأعمال البربري بين مورزا وغرامشي (1)

من المعروف أن جدول أعمال التدمير الإمبريالي محكوم بضرورة أن يتسارع بسبب حدة الأزمة والفاعلية التاريخية للقوى الصاعدة المتسارعين. وعامل الوقت هذا له دور كبير في فهم ديناميات الصراع، وتحديداً رد فعل القوى المعرّضة للتدمير على جدول الأعمال البربري المطروح، وبالتالي فهم هوامش الصراع وتوازن القوى المحتمل. وهنا نطل على بعض أفكار سيرغي قره-مورزا في هذا المجال مع وضعها في السياق الراهن.

«التلاعب بالوعي»

نشرت الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2012 كتاب «التلاعب بالوعي» للكاتب الروسي (السوفياتي) سيرغي-قره مورزا، ترجمة عياد عيد. والكتاب مخصص لفهم السلاح والتكنولوجيا الجديدة التي خصصنا لها غالبية المواد السابقة، أي تكنولوجيا الهيمنة الناعمة التي تبلورت في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانفجرت بالتحديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والكتاب مكثّف من حيث القضايا والبراهين وميادين العلوم المستند إليها. الكتاب مكوّن من ثلاثة أقسام موزعة على ثلاثة عشر فصلاً و520 صفحة. والأقسام الثلاثة هي، ما معنى التلاعب بالوعي، المرامي الرئيسية للتلاعب بالوعي، والتلاعب بالوعي والمؤسسات الاجتماعية. ويتناول مورزا الموضوع من جوانب مختلفة بدءاً من علوم اللغة والذاكرة والإدراك، وقضايا تكنولوجيا الدعاية «الحديثة» (كالتلفزيون)، والمواضيع المركزية كجوهر للتلاعب (مثال الشمولية-الديمقراطية)، وفضاء الثقافة بشكل عام. ويطل مورزا على مواقف وتحليلات الكثيرين من الباحثين والأدباء والشعراء والسياسيين، من دستويفسكي وصولاً إلى مدرسة فرانكفورت، وحتى الكثير من الكتاب الأمريكيين «المتمردين» وأولئك الذي نظروا وساهموا في اختراع «تكنولوجيا» اختطاف الوعي، الذي يعتبره مورزا «ذروة إبداع الحضارة الأمريكية في وقت قصير». ويحتل غرامشي موقعاً أساسياً في النص في محاولة الكاتب بناء العمود الفقري للمحاججة خصوصاً في فهم مسألة بناء القبول والرضا الجماعي كغاية أساسية للتلاعب والهيمنة الناعمة، ويفرد له أيضاً الفصل الرابع (ضمن القسم الأول) تحت عنوان: «تعاليم غرامشي عن الزعامة». وما يهمّنا في هذه المادة تحديداً هي إشارة مورزا إلى أهمية فهمنا للسياق الزماني والمكاني الذي ينفّذ فيه العدو جدول أعماله. فهذا السياق له دور أساس في تحديد شروط التنفيذ واحتمالاته، وهذا ما يهمنا اليوم بشكل خاص.

عن التهديد الحضاري مجدداً وتوقيت الهجوم

لا يخرج مورزا عن الفهم العام في كون مسار الهيمنة عبر التلاعب بالوعي مدمراً حضارياً، وتحديداً من خلال إنتاج الإنسان الزومبي ومسح الذاكرة، واختلاق عوامل موازية «معادية» للأهداف والحاجات الحقيقية للفرد. هذه العوامل الموازية، وتحديداً تلك التي يجري بناؤها بعناية عبر تضمين الرموز المشغولة بإتقان للعب على وتر الفردانية، تدفع بالفرد إلى أقصى مديات التفكك وانفصال الفرد عن الواقع. وهذا التهديد يشمل كل «ساكني الأرض» حسب مورزا. والأهم هو في جعل الكتلة الأكبر تسير عن «قناعة» في معاداة مصالحها. ولكن تنفيذ جدول الأعمال هذا فيه من الخصوصيات الزمانية والمكانية التي تؤدي إلى تفاوت في نتائجه. فيقول مورزا، إن تحقيق جدول الأعمال هذا في مجتمعات كثيرة أخذ وقته مما جعل تقبله يسيراً على المجتمعات التي عاشت نمطه الفرداني، ويقول مورزا: «كانت عملية إحاطة الإنسان بـ«ثقافة التلاعب» في أجزاء أخرى من العالم بطيئة وتدريجية (آسيا هي حالة خاصة، ثمة لديها وسائل وقاية قوية). لم تحدث هناك صدمة ولا آلام مثلما حدث لدينا. تولّد هناك اعتيادٌ خال من أي أمل في محاولات التحرر الحادة الخلاقّة. الضفدعة المرمية في الماء المغلي تقفز وإن كانت مجروحة. أما الضفدعة المرمية في الماء الدافئ فتطفو في القدر مستمعة. إنها لا تلحظ أن القدر موضوع على النار، وأن حرارة الماء تشتد. ستظل مستمتعة هكذا إلى أن تسلق. مهمتنا أن نقفز ونساعد أولئك المستمتعين».
بينما في المجتمعات التي جاء فرضه سريعاً لاعتبارات معينة، شكل صدمة ما، ما أنتج دفاعاً في وجهه. ومن مورزا نقتبس: «خُصَّت روسيا «يقصد مورزا روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تحديداً» في هذا الصراع المحتمل بدور مميّز ومكانة خاصة. لقد انهمرت عليها بطريقة ثورية كالسيل تكنولوجيا التلاعب بالوعي المعاصرة كلها مصحوبة بنتائج صارخة ومتنافرة. لقد ولد هذا صدمة طبعاً، لكنه شكل في الوقت نفسه ظرفاً مهماً من أجل محاولة الإدراك، ومن ثم المقاومة».
ويمكن القول، كما أشرنا سابقاً، إن التسارع اللاحق في الأزمة فرض تسارع جدول الأعمال المذكور. وما التحول في أدوات الدعاية وقصف العقول من منصات بطيئة الوتيرة، ولكنها ثابتة، إلى منصات فائقة السرعة. وهذا التسارع وتقنياته تتنوع مع تطور ديناميات الأزمة والصراع. وهذا لا يغفله مورزا فيقول: «فإذا غدت معرفة أدوات التلاعب بالوعي هذه وأساليبه متاحة لعدد كبير بما فيه الكفاية من الناس، ستصير ممكنة أعمال المقاومة المشتركة أو في البداية أعمال الوقاية من هذا التلاعب. طبعاً، سوف يبتكر المتلاعبون أدوات جديدة وأساليب جديدة. ولكن هذا سيصير صراعاً غير سهل ومكلفاً» (إنه مكلف ولا شك!! ثمنه تجفيف منابع العقلانية والوجود الإنساني).
حسناً، فليس الانتقال من التلفزيون إلى وسائل الدعاية الأسرع من الإنترنت إلى الهاتف المحمول، وليس الانتقال من منصات أبطأ وتيرة كالفيسبوك، نحو الأسرع منها، كالمنصات المخصصة للمواد المصورة التي تقاس بالثواني، وليس الانتقال بالمضمون من المكتوب إلى المصور المدموج بالمكتوب والموسيقا، كل ذلك مؤشرات على التسارع في الأدوات والمضمون. هذا التسارع محمول على التوتر الناتج عن الأزمة. وملخصه هو ملء العالم بالضجيج. هذا الضجيج والصراخ قد لا يقاس في مضمون المادة التي يقدمها، بقدر ما يقاس بتقنيته المتسارعة. والتوظيف الهائل للوسائط يحتاج اليوم إلى أكثر من دعوى مورزا للمقاومة الفردية. بل هو يحتاج إلى وسائط مقابلة عالمية الطابع كذلك. ولكن يجب أن تتجاوز الموقف الوعظي، التوعووي الذي يحاول مورزا في كثير من الأحيان حمله (وهذا الموقف الثقافي-الأخلاقي الدفاعي الذي يرفضه غرامشي).
لنعد قليلاً إلى مسألة التسارع. إن التسارع الذي حصل في الوسائط والتقنيات والمضامين محمول على ضغط الأزمة صار في الفترة الأخيرة شديداً. فقوى العالم القديم، ونتيجة لضيق هوامش المناورة العسكرية والاقتصادية، تحاول الدفع بجدول أعمال التلاعب بالوعي، الذي هو بالنهاية تحويل للواقع ونمط الحياة، عبر تحويل «الكتلة التاريخية» نفسها، وتحويل للعالم الثقافي كله كما يشدد مورزا. هذا التحويل يوازي من حيث التدمير الحرب النووية. فهو تأسيس لقاعدة ونمط حياة بربريَّين، عبر توسيع «الوجود الرث» كما أشرنا سابقاً. وهذا الوجود الرث اليوم شامل مجتمعات بحد ذاتها، وإن كانت بعض المجتمعات أقل، فهي ولا شك تتضمن قوى اجتماعية لها وجودها الرث. وما تحطيم صورة المستقبل وتفريغ الوجود من الجدوى والمعنى إلا المؤشر المباشر على الوجود الرث الذي هو توسيع تاريخي في مفهوم «البروليتاريا الرثة». ولهذا فإن هذا التسارع وعلى الرغم من خطورته في تدمير العقلانية التي تطورت خلال قرون من التاريخ البشري، ولكنه يشكل صدمة على «بدهيات» المجتمع التي تتخذ موقفاً دفاعياً تجاه هذا المسار التدميري. وإن لم تتحول بعد إلى جدول أعمال إيجابي يتجاوز الموقف الدفاعي. فليس التكتل القومي والهوياتي والعائلي والثقافي التراثي، وحتى الفردي، إلا أشكالاً دفاعية عن هذا الاجتياح العدمي ليس في نمط الحياة فقط، فهذا النمط الذي تم تعميمه مرّ بهدوء وتسلل، بل صار قسرياً ويهدد جوهر تقنية التلاعب بالوعي التي يبني عليها مورزا في الكتاب سرديته، إنها قضية القبول. هذا التسارع ينتقل من تقنية القبول التي هي ضرورية لإمرار مسألة الهيمنة والتلاعب، إلى تقنية الفرض القسري لجدول الأعمال البربري. هذا هو مكمن الضعف ومصدر المقاومة المتاحة والممكنة وتشكل ميزان قوى الجبهة الحضارية.
فالتسارع يفرض تخلياً عن تقنيات التلاعب المخادعة التي تنتج «القناعة» بالنمط «المقترح». وهذا التخلي خلق اليوم ما سماه مورزا «لحظة الصدمة». ولكن لحظة الصدمة لن تنتج وحدها الواقع النقيض، فبناء الجبهة الحضارية يحتاج إلى أكثر من موقف توعوي وعظي، كما يظهر في مسار مورزا، وإن لم يقصد ذلك. بل يحتاج، حسب غرامشي، إلى خلق «السبيكة التاريخية» أو «الكتلة التاريخية» عبر تحويل البناء الفوقي والتحتي، حينها «السياسة تصبح نشاطاً دائماً، وتتمخض عن تنظيمات دائمة، بقدر ما تتوحد مع الاقتصاد، وان اختلفت عنه. ولهذا يمكن الكلام ... عن «الحماس السياسي» باعتباره حافزاً مباشراً لنشاط يولد على الأرضية «الدائمة والعضوية» للحياة الاقتصادية، بل ويتجاوزها، محركاً المشاعر والطموحات، التي تخضع في جوها المتوهج الحسابات التي تشمل حياة الإنسان الفرد ذاتها، لقوانين أخرى تختلف عن قوانين الربح الفردي (غرامشي، الأمير الحديث). المطلوب من الجبهة الحضارية إذاً ليس الموقف الدفاعي، كما ينقده غرامشي، بل تحويل للاقتصاد، ومعه تحويل للسياسية لكي «تصير هي الحياة» كما يؤكد غرامشي، فيكون تحويلاً لنمط الحياة ككل وللحضارة التي تموت. مدى وحجم القوى التدميرية الكامنة أكبر من كبحه عسكرياً ودفاعياً اقتصادياً، والنمط الحضاري البديل يقف كمهمة مركزية على جدول الأعمال، ليس بالضرورة تنفيذه اليوم أو غداً، ولكن في كونه «مشروعاً حماسياً» جاذباً للقوى «المُختَطفة»، ومحولاً لطاقتها التدميرية، نحو انخراطها الناشط في المواجهة، ومن ثم بناء ذلك النمط البديل. فعامل الوقت ليس في صالح أحد، حتى وإن كان لدى قوى العالم الجديد فضاء مفتوح على عكس قوى العالم القديم، ولكن في تكتيكات الصراع، الوقت له دور أساس، ونختم مع مورزا «التمكن من الواقع ممكن فقط بدراسة مذهب العدو وتكتيكه وسلاحه» ولهذا «فالإفلات من التلاعب من خلال الدوغمائية «نسميها في النص الموقف الدفاعي المعاند» والإصرار على الموقف و«بالعناد» مستحيلة ببساطة. يتيح الصمود مدة فقط إلى أن يختاروا المفتاح المناسب لك، أو يتجاوزوك بصفتك عائقاً لا يمثل خطراً كبيراً... التمكن من الواقع ممكن فقط بدراسة مذهب العدو وتكتيكه وسلاحه». وهذا السلاح هو هو نمط الحياة الاستهلاكي المغترب والرث نفسه كقاعدة لاستخدام باقي التكتيكات والتقنيات التدميرية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1127
آخر تعديل على الإثنين, 19 حزيران/يونيو 2023 16:14