استعادة “دراما” بوليتزر في سياق الأزمة الحضارية (2)

استعادة “دراما” بوليتزر في سياق الأزمة الحضارية (2)

في المادة السابقة، حاولنا الإشارة السريعة إلى المناضل الشهيد جورج بوليتزر، وإلى إنتاجه النظري الذي يهمنا في البحث حول تقديم تصور نقيض عن الحضارة الرأسمالية المأزومة. وفي استعادة إنتاج هذا الفيلسوف الهنغاري- الفرنسي، نستكمل المحاولة المنهجية في المقارنة بين تاريخ تطور علم النفس، وبين التطور الثقافي والحضاري العام للمجتمع الرأسمالي، ففي أزمة الأول يمكن تتبع مصائر وملامح أزمة الثاني، وذلك لتشارك الاثنين في موضوع البحث ذاته، ألا وهو الإنسان. وهنا نستعرض أبرز الأفكار التي تضمنها نصه الكلاسيكي “أزمة علم النفس المعاصر” والتي تمدنا ليس فقط في تثبيت ملامح البربرية المتوسعة، بل في أسس الرد عليها عبر المشروع الحضاري الشامل.

مجدداً، عن ملامح الأزمة في علم النفس وأصلها الاجتماعي

في المواد السابقة، أشرنا إلى أن تتبع مصائر علم النفس يمكن أن تمدنا بمادة تاريخية مبكرة عن ملامح المجتمع والعقل الإنساني في ظل تصاعد الأزمة الرأسمالية، وذلك في كون علم النفس يبحث في الإنسان، ويستند في ذلك على منطلقات فلسفية ومنهجية، وبالتالي أيديولوجية، وهو أيضاً له صفة التجريد والتعميم العالي، مما يجعله مؤهلاً لاستكشاف وبلورة الاتجاهات العامة عن الإنسان بشكل مبكر تاريخياً، وهذا ما اعتبرناه مقاربة منهجية قيمة في بحث المسألة الحضارية والثقافية- الممارسية لإنسان ولمجتمع اليوم. وهذه الملامح والمصائر العامة كنا قد أشرنا إليها لدى عالم نفس آخر هو السوفييتي ليف فيغوتسكي، وقلنا بأن كلا من فيغوتسكي وبيوليتزر يتشاركان إلى حد كبير ليس فقط في تزامن إنتاجهما، بل أيضاً في توصيفهما لأزمة علم النفس، وفي اعتمادهما ذات القاعدة المنهجية والفلسفية في مقاربتهما تلك، على الرغم من أن فيغوتسكي وضع أسساً نظرية كاملة، بينما ما وضعه بوليتزر هو طروحات عامّة لم ترتق حد النظرية.
ومن الملامح التي حددها بوليتزر لأزمة علم النفس في صيغتها الحادة، والتي يتشارك فيها مع فيغوتسكي، هي الفوضى التي أصابت العلم، والتوالد غير المضبوط للنظريات والمنهجيات ما ينتج التفتت، وعدم الاتفاق على تعريف موضوع البحث لدى الاتجاهات المهيمنة، والانتقائية، والإسراف في النقد، والتضارب والتوتر الذي لا يهدأ بين الاتجاهات المهيمنة، وغياب المبادئ الموجهة للبحث، والاستعارة من العلوم القريبة لعلم النفس من أجل تعويض أزمته، وبقبول كل النظريات بشكل متساوٍ على الرغم من التعارضات المنهجية والنظرية فيما بينها. وهذه الملامح هي نتيجة الثنائية التاريخية في الفلسفة بين الذات والموضوع، وعدم القدرة على التوليف الإبستومولوجي- المعرفي بين طرفي الانقسام الوجودي هذا. وهذه الثنائية تنتج النظريات المهمينة دائماً حول قطبين، الأول: هو المادية الميكانيكية المتطرفة في شكلها البيولوجي البحت. والثاني: هو المثالية الذاتية التي تلغي الواقع في شكلها الغارق في التأمل. وحول هذين القطبين يجري التوتر الدائم في تاريخ هذا العلم. ويعتبر بوليتزر أن هذا التوتر ليس إلا نتاج الوظيفة الطبقية لهذا العلم في تثبيت المجتمع الطبقي نفسه، وهذا ما جعل العلم ينتقل من “ميتافيزيقيا طفيفة” إلى ميتافيزقيا مستفحلة”، ومن “أسطورية جزئية” إلى “أسطورية تامة” مع الاتجاه إلى الإنصهار في “المثالية” و”خيانة الواقع”، مع “التخبط على غير هدى دون خطة”. أليس هذا ما نشهده في الثقافة المهيمنة وممارسة الفرد اليوم؟!

مقابلها الاجتماعي اليوم والبربرية كمصير للحضارة الرأسمالية

كما قلنا في مواد سابقة: يقابل هذه الملامح في العلم ما يوازيها في المجتمع، والذي بدأ يتطور في السنوات الأخيرة إلى مستوى الظواهر العامة، بعد أن كان في العقود الماضية حالات “فردية وظواهر مرضية”. وما كان يعتبر سابقاً مضمون علم الباثولوجيا (الاضطراب) كحالات الفصام وغيرها صار اليوم مضمون الحالة العقلية والنفسية للحضارة ككل. ومن هنا نفهم مقولة فيغوتسكي المنهجية، بأن “علم الاضطراب هو المدخل والمفتاح لعلم السواء”. فنحن اليوم نلمس التفتت، والتوالد والتوتر الهستيري للمقولات والمواقف والنظريات حول الممارسة اليومية للفرد والموقف من العام، وهذا التوتر يقوم إما حول الإنسان الزاهد خارج الزمان والمكان، وإما حول الإنسان الغارق في الحسية المفرطة (الإنسان الذي يلهث وراء الواقع دون أن يقبض عليه ولا يصل إلى مناله) منتجاً ما سماه ألبرتو مورافيا بالإنسان الدودة. وهذه الثنائية هي ذاتها ثنائية القطبين المتقابلين في العلم بين البيولوجية البحتة وبين المثالية الذاتية، واللتان تتعايشان في ذات الوقت، بل هما تتطلبان بعضهما البعض، كما يعتبر كلا من فيغوتسكي وبوليتزر على حد سواء. ونحن فعلا اليوم أمام إلغاء للذات الإنسانية من جهة، أو إلغاء للواقع من جهة أخرى. فالموقف الرسمي للحضارة المهيمنة وثقافتها يلغي الواقع ويقفز عنه (قطب المثالية المتطرفة)، بينما الموقف المقابل للطبقات الشعبية والقوى الاجتماعية ككل، هي تعيش واقع إلغاء ذاتها (قطب المادية المتطرفة). وهذا كله اليوم قائم على حدة التوتر الناتج عن ضرورة التوليف بين قطبي الانقسام الاجتماعي، وتجاوز التغريب والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والقاعدة السلعية- البضاعية، كما كان هذا التوتر نفسه في العلم سابقاً ناتجاً عن ضرورة توحيد الذات والموضوع الذي يقع في صلب المشروع الحضاري النقيض اليوم. فلا تغليب للفرد لصالح الموضوع، ولا تغليب للموضوع على حساب الفرد بالمعنى، دون أن ينفي أحدهما الآخر، بل في كون الاثنين يتشاركان في المصير نفسه، عبر كونه واحداً في الأساس، وما الفصل هذا، إن كان في العلم أو في المجتمع إلا نتاج المصالح الطبقية المهيمنة التي لا زالت تعارض الفرد بالمجتمع، وتعارض المجتمع بالفرد، وهنا بالتحديد تقف الحضارة النقيضة وتجد أرضها الضرورية، أي في توحيد الفرد والمجتمع لأول مرة على قاعدة ما حصل من تطور حضاري طوال تاريخ البشرية، وخصوصاً السيطرة على الطبيعة وقوانين المجتمع على حد سواء.

في “دراما” بوليتزر

لا يختلف بوليتزر عن فيغوتسكي كثيراً في الرد العام على أزمة علم النفس الرسمي، في اعتبار أن موضوع الدراسة يجب أن يكون دراما الإنسان، أي حياته التي تتحدد بين المولد والممات، وليس الإنسان خارج التاريخ. إنه الإنسان الممارسي البراكسسي حسب تعبير غرامشي. الإنسان صاحب النشاط المحدد في الوقت المحدد وفي المكان المحدد، والذي له مقاصد محددة معروفة ضرورية يمكن اكتشاف “حتميتها” (أي ضرورتها)، وتحدده في ذلك علاقته مع الآخرين الذين يتشارك معهم هذه الممارسة، التي لا يوجد لها معنى خارج هذا التشارك. وإذا كان فيغوتسكي سما ذلك “حلقة” أو “دورة النشاط” فإن بوليتزر سماها “الدراما”، أي التجربة الحية للإنسان في مضمونها الثقافي- التاريخي- الاقتصادي المحدد والملموس. وهكذا يعتبر بوليتزر (كما فيغوتسكي) أن حياة الإنسان ليست هي “الحركة” (بما هي مفصولة ومنعزلة ومستقلة) بل “الأفعال الإنسانية الشاملة” (كمقاطع من دراما الحياة التي تتمحور حول وحدة سردية الإنسان).
وهكذا يكون رد بوليتزر على الأزمة في العلم (كما يجب أن يكون الرد الحضاري النقيض على الأزمة الحضارية للرأسمالية) قائماً على عدة عناوين عامة. يجب أن نستند في تحليلنا على الوحدات (عمليات متكاملة ضمن سياق- سردية عامة ولها غاياتها الملموسة زمانياً ومكانياً، أي ممارسياً) لا العناصر (أي الدراسة الشكلية التي تتناول الأشياء وتنفي الدلالات الإنسانية، لا الأفراد التاريخيين الملموسين في خبرتهم اليومية). وفهم الظواهر كتعبير عن الكلّي (وهنا المشروع الفردي- الإنساني). وبالتالي، حسب بوليتزر، نحن لسنا أمام رد مفهومي- فكري، بل رد ممارسي جوهره الخبرة اليومية. ويجب أن يجري استبدال تاريخ الأشياء (التي تلغي الإنسان) بتاريخ الأفراد.

المقابل الحضاري

إذا كان هذا رد بوليتزر على أزمة التيارات المهيمنة في العلم الرسمي المأزوم، فإننا سنستعير دراما بيولتزر، في كونها موضوع هذا العلم، لكي تكون موضوع الطرح الحضاري النقيض. ولهذا لا يجب أن يتمحور الرد الحضاري النقيض على “الأشياء” وتاريخها، وإن كانت تلك عناصر ثقافية وطنية وغيرها (قد تكون تلك عناصر ثقافية، وغالبها ينتمي لتاريخ سابق) (لاحظ رفض بوليتزر لتاريخ الأشياء بدل تاريخ الأفراد)، فهذا تفريغ للدراما الإنسانية من جوهرها اليومي الآني في الزمان والمكان. ولا يجب أن يكون الرد “ثقافياً” عبر المفاهيم والأفكار النقيضة مهما كانت تلك الأفكار “تقدمية أو ثورية أو وطنية او تراثية” (لاحظ رفض بوليتزر للرد المفاهيمي) بل يجب أن يكون رداً ممارسياً، أي مشروعاً دراميا نقيضاً له سرديته النقيضة التي تتحدد في سياق الميلاد والموت. ولا يخفي بوليتزر في ذلك موقفه المستند إلى الاقتصاد الماركسي في فهم الدراما تلك. لهذا فإن تحويل القاعدة الانتاجية لتحقيق الدراما النقيضة يقع في صلب الطرح النقيض. أي قاعدة نقيضة لاقتصاد الانقسام الثنائي نفسه الذي يحكم الانقسام المعرفي في العلم، كما في الدراما الحالية. الاقتصاد الذي يفصل بين مصير الذات ومصير الموضوع. فكما يقول بوليتزر “وصلنا إلى اللحظة الحاسمة في المعركة، ويجب تحديد النقطة المحددة التي يجب أن يستند إليها كل هجومنا...فالوضع صار من الوضوح بحيث لم يعد خافياً على أحد، أي اقترب الجوهر من الشكل، ولم يعد يمكن لأي شكل أن يصح على الجوهر واحتمال تناقضاته، وإلا تدمر الشكل القديم المحافظ نفسه، أو اختنق الجوهر الجديد”.. هذه هي بعض نبوءات بوليتزر في “بربرية المجتمع”، كما قالها في “بربرية العلم”.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1119
آخر تعديل على السبت, 06 أيار 2023 22:08