تصلّب - تَوَتُّر- مُرُونة
حسين خضّور حسين خضّور

تصلّب - تَوَتُّر- مُرُونة

بدأت تتصلّب بالتدريج سكة القوى الثورية على مدار ثلاثة عقود تقريباً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتدخل من بعدها مرحلة خطيرة بتبدلاتها في عقد الثمانينات، والتسعينات، إلى أن وصلت لذروتها تقريباً عند دخول الحراك الشعبي العالمي في مستوى جديد مع مطلع عام 2000، والانتفاضة الفلسطينية الثانية كانت أول المؤشرات، وعلى إثر ذلك توضحت معاناة القوى الثورية من آلام الصَّدأ على سكتها، ومخاوف دخولها في أيّة لحظة إلى المتحف.

بكل تأكيد أية قوى ناشطة على الأرض تستند بالحد الأدنى إلى نشاط فكري (منظم، أو غير منظم)، والتفكير عموماً مرتبط عضوياً، ويتفاعل مع مكونات البنيان الفوقي الأخرى من وعي، ثقافة، فن، علم، حقوق، وسياسة، وتلك الأخيرة هي المحدد الأساسي لأية أزمة قد تحدث للبنية الفوقية في أي زمان ومكان بعد تراكم مشكلات، مسائل، وقضايا من دون أي حل حقيقي جذري لها. ومراراً وتكراراً، قد حدث أنه عند الوصول إلى مفصل تاريخي كهذا في المجتمع الطبقي، يزاح الخطاب السياسي المثالي للأسياد من قبل خطاب مثالي- ذاتي لأبنائهم، لمواجهة خوفهم من صعود الخطاب السياسي للقوى الثورية، ولم يأت من فراغ السبب الذي دفع بفلاديمير لينين في عام 1909 لنشره كتابه الفلسفي كتطوير للفلسفة الشيوعية الثورية، بعنوان «المادية والمذهب النقدي التجريبي» الذي احتلّت معالجة ظاهرة المثالية-الذاتية نصيباً كبيراً منه.

تحول شكل التفكير المثالي إلى مثالي- ذاتي في مواجهة الثوري

المشكلات، المسائل، أو القضايا التي تحتاج إلى حلّ هي بحد ذاتها مصدرٌ أساسي، لتكوُّن التفكير عموماً، والذي يمكن تقسيمه إلى قسمين يختلفان بالشكل، وقسم آخر مختلف عنهما نوعياً:
- مثاليون يتبجحون على الناس على أنهم الفكر الخالص، يحافظون على القواعد والأسس مع حالة قصوى من المثالية في إصلاح أي شيء قد يظهر من جراء التغييرات المطلقة لحركة الواقع.
- مثاليون- ذاتيون نرجسيون على الناس، يقطعون مع الماضي، والمستقبل، يحطمون القواعد والأسس، مع حالة جانحة بالرومانسية في وهم تقديم الجديد، بعد تدميرهم للقديم.
- ثوريون يستمدون طاقتهم من نواة المجتمع «الطبقة العاملة بأجر»، يفكّرون بالقديم على ضوء الجديد، يقودون الحركة الشعبية في تطلعاتها للعيش في واقع جديد أفضل من خلال تغيير القواعد والأسس جذرياً مع إبقاء الجوانب الإيجابية فيها.
(المثاليون) ازدادت مساحتهم على مستوى العالم في فترة الخمسينات، الستينات، والسبعينات من القرن الماضي، وضمن هذه الفترة تم تحوير الحركة الشعبية إلى ثورات ملونة في عدة مناطق بالعالم، وذلك بالتوازي مع تراجع دور (الثوريين). أما (المثاليون- الذاتيون) فقد استلموا الساحة منذ عقد الثمانينات حتى مطلع هذا القرن، وعملوا على التحرك بقسوة نحو الأسفل أمام إمكانات جديدة لعودة الحراك الشعبي العالمي، وهنا تحوّل الخطاب السياسي لدول المركز الإمبريالية، ودول الأطراف التابعة لها، إلى خطاب ظاهرُه عسكري، وباطنُه اقتصادي ليبرالي في محاولة لإعادة عجلة التاريخ ذاتها عندما ولدت الإمبريالية في بدايات القرن الماضي.

كلنا خرجنا من معطف غوغول

تواصلتُ خلال عشر سنوات بشكل كبير مع الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، وبعدما أخذتُ وقتاً كافياً لاستيعابه، أدركتُ أنّ دلالة المعطف في القصة التي تحمل العنوان ذاته لــــ «نيقولاي غوغول»، هي أبعد بكثير من حلم بسيط لموظف روسي يعمل في أدنى درجات السلّم الوظيفي ضمن روسيا القيصرية في أربعينيات القرن التاسع عشر، حيث تمحور جهده المضني للحصول على معطف جديد، بعدما تهتّك وضع معطفه القديم. وتكثيف المعنى في مقولة «كلنا خرجنا من معطف غوغول» والتي تنسب غالباً إلى دوستويفسكي، لم يساعدني فقط على إدراك الحركة المادية لتاريخ روسيا في القرن التاسع عشر، إنما أيضاً إدراك حقيقة وجود عالَم متقدِّم، وآخر متخلِّف، وبالتالي وضوح الحالة الجنينية للإمبريالية، عندما كانت الرأسمالية في مسار نقلتها النوعية ضمن فرنسا، وبريطانيا بشكل أساسي، فقد سلك كل منهما نهج تحطيم أية إمكانية لدى أماكن أخرى في العالم لتكرار الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية بالطريقة التي حدثت فيهما كدول رأسمالية متقدّمة. وحملة نابليون على مصر (1798–1801) يمكن لها أن توضح كيف عمدت الرأسمالية الاستعمارية القديمة، السائرة في تطوّرها إلى إمبريالية، إلى تدمير إمكانية تطور الصناعة في مصر، (وتخيلوا كم كانت الآلة بسيطة في ذلك الوقت مقارنة مع اليوم). وبما أننا نتحدث عن ضرورة تاريخية للخروج من تحت وطأة إقطاعية قديمة وصلت إلى درجة تمزقت فيها الأنسجة، وعبثاً أن يتم إصلاحها، أو ترقيعها، وينبغي تبديلها بشكل كامل. فما بين تكثف الصراع للخروج من عالم الإقطاعية القديم والدخول إلى عالم الرأسمالية الجديد في القرن التاسع عشر، ظهر مركَّب أعلى منهما هو عالم الشيوعية. لكنه كان في حالة جنينية، ومن ثم دخل في مخاض عسير، أمام ولادة الإمبريالية في مطلع القرن العشرين، والتي أدركها على الفور كل من لينين، والبلاشفة، وبدأوا يحضّرون للمعركة القادمة بلا أدنى شك، فخرجت روسيا بعزيمة شعبها، وفطنة قيادتها، من منظومةٍ تكبّلها كلٌّ من بقايا الإقطاعية وقيود الرأسمالية، ودخلت الاشتراكية كمرحلة ضرورية قبل الشيوعية، وتطورت فيها الصناعة بقفزة تاريخية. كذلك أحرزت الصين انتقالها الخاص بها إلى شكلها الخاص من الثورة الاشتراكية منتصف القرن العشرين. وبالفعل فجّرت الإمبريالية الكوكب بحرب عالمية ثانية، انتهت بشيء أشد فتكاً على البشرية من القنبلة الذرية التي ألقت بها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما، وهو برغي صهيوني صغير ألقي على الأراضي الفلسطينية من قبل بريطانيا، وعملت لاحقاً الولايات المتحدة الأمريكية على شده.
صفوة المادة: إن الآلة كان لها دور أساسي في ظهور الإمبريالية بحالتها الجنينية في القرن التاسع عشر، وكان لآلة الصهيونية تاريخٌ متداخل ووثيق الصلة مع ظهور وتطوّر الإمبريالية، وشد برغي الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية تحت اسم «إسرائيل». والصراع ما بين القديم والجديد تكرر مثلما حصل خلال النصف الأول للقرن العشرين لكن بشكل أعمق وأقسى، فإن تكثف الصراع ما بين الخروج من عالم الإمبريالية القديم، والدخول إلى عالم متعدد الأقطاب، سيدفع بالضرورة بعالم الشيوعية كمركب أعلى منهما للظهور من جديد عبر مرحلة انتقالية من اشتراكية القرن الحادي والعشرين. لذلك فإنّ المهمة التي على عاتق القوى الثورية القديمة هي أن تعيد تجديد نفسها، ولا يعني ذلك خروجها عن السكة، إنما التجديد الثوري في حركتها لتصبح متحركة على السكّة بمرونة مثل سكّة قطار الشارع «ترام» حيث يتحرك بأشكال متعدّدة في طرقات المدينة بين الناس، ويعمل على أداء مهمته في تأمين رحلة آمنة وسالمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1108
آخر تعديل على الإثنين, 06 شباط/فبراير 2023 10:35