«فتاة المصنع» لمحمد خان.. إضافة مُعلِّم
نديم جرجوره نديم جرجوره

«فتاة المصنع» لمحمد خان.. إضافة مُعلِّم

يستعيد المخرج المصري محمد خان حيويته السينمائية، بانشغاله البصري والدرامي في مسائل متعلّقة بقاع المجتمع، وبناسه. «فتاة المصنع» استكمالٌ لهَمِّ جماليّ ساهم خان سابقاً في صناعته. البيئة الاجتماعية فضاؤه الأوسع. منطلقٌ لقراءات متفرّقة، تتناول الإنساني والذاتي والسياسي والسلوكي والحياتي. النبض المجتمعي أساس بُنى سينمائية وضعها خان في أفلام وُصفت بأنها جزءٌ فعّال في نتاجات «الواقعية الجديدة» في السينما المصرية. 

«فتاة المصنع» (2013) امتدادٌ لهذا النمط السينمائي الثقافي، المتفلّت ـ في الوقت نفسه ـ من تصنيفات محدّدة، باتّجاه اختبار إضافي للّعبة السينمائية. امتدادٌ قادرٌ على إحاطة النصّ بلقطات بصرية تؤكّد مسألتين جوهريتين: السينما صورة، والمجتمع نواة قراءات درامية وجمالية مختلفة لأحوال أفراد وبيئات. السينما صورة ومضمون، والأدوات المُستخدَمة من قِبَل محمد خان في صناعتها كفيلةٌ بتثبيت جديد على أن النمط الاجتماعي لا يزال نابضاً بأسئلة محتاجة إلى مزيد من الاشتغالات الفنية والثقافية.

ثلاث ملاحظات يُمكن استنباطها من «فتاة المصنع»: الاجتماعيّ نافذةٌ حيّة للتعمّق في خفايا السلوك والتربية وأنماط العيش داخل دائرة الفقر والإحباط والاختناق. السينمائيّ معقودٌ على تحويل عدسة الكاميرا إلى ما هو أبعد وأعمق من المباشر والواضح. الثقافي منذورٌ لتفكيك المعطيات الموجودة، ولطرح أسئلة الصورة والتقنيات «التقليدية»، المُستَعَان بها في إعادة رسم ملامح بيئة وحالات. الفيلم الجديد لخان استكمالٌ لأسلوب صاحبه في تفعيل «واقعية اجتماعية» يبدو واضحاً أنها لا تزال منغلقة على كَمّ هائل من الانهيارات والخدع والتوتر والتمزّق. استكمالٌ لهاجس ثقافي متعلّق بأسئلة العلاقات الإنسانية الملتبسة، والانفعالات المصطدمة بوقائع العيش في بؤر الخراب. «فتاة المصنع» انعكاس لجمالية محمد خان في مواكبة مسارات شخصياته الذاهبة إلى مصائرها المنكوبة أو المحطّمة أو المعلّقة أو الملتبسة، وفي تحويل المواكبة نفسها إلى إشارات تنفتح على المبطّن، وتميل إلى فضح المخفيّ عبر لقطات يُظنّ، أحياناً، أنها عابرة، قبل أن تنكشف على براعة بصرية في إعطاء الحكاية معالمها. لقطات تفضح من دون أن تقول، وتكشف من دون أن تُصرّح أو تصرخ، تاركةً السرد ينسج وحده المآل كلّها التي تنتظر الشخصيات والحكايات والانفعالات، والمُشاهدين أيضاً. هذه لعبة سينمائية محكمة الصُنعة، مفيدة (سينمائياً ودرامياً وحكائياً) لكونها عامل جذب يضع المُشاهدين، منذ البداية، أمام أنفسهم وهم يتابعون حكاية الفتاة الفقيرة، التي تواجه بيئة مخادعة وظالمة عبر الحيلة والافتراء اللذين ينقلبان عليها، قبل بلوغها لحظة انقلابها هي، المدوّي على المحيطين بها.

الحب. العلاقات الإنسانية. تحدّي الفقر. الكذب. التطاول على الذات والآخرين أحياناً. البيئة الاجتماعية بأسئلتها ومآزقها وخيبات ناسها وأحلامهم الموؤودة. الاحتيال. التفاوت الطبقي داخل البيئات الاجتماعية الفقيرة المتشابهة: هذه كلّها تفاصيل تتكامل فيما بينها لتروي حكاية «فتاة المصنع» مع الدنيا والناس والتصرّفات والمشاعر. أغنيات متفرّقة لسعاد حسني. عينان لامعتان بذكاء ومرارة جعلتهما ياسمين رئيس (فتاة المصنع نفسها) ـ الفائزة بجائزة أفضل ممثلة في «مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة»، في الدورة العاشرة (6 ـ 14 كانون الأول 2013) لـ«مهرجان دبي السينمائي الدولي» ـ نافذتين تعبران بالمُشاهدين إلى داخل الصبيّة الآسرة بحركتها وأدائها وقوّة حضورها في مواجهة أقسى التحدّيات والعقبات، وتعبران بالمُشاهدين أنفسهم إلى خارج الذات، أي إلى محيط الفتاة، الممتدّ من جسدها إلى تلك الجغرافيا العنيدة بانهياراتها وإحباطاتها وخرابها.

سواء انتمى «فتاة المصنع» إلى الواقعية الاجتماعية أو لا، وسواء غاص في بواطن الخراب المجتمعيّ بأفراده وجماعاته أو لا، يبــقى الفيلم الجديد لمحمد خان محطة جميلة في معنى العلاقة الحقيقية والصادقة والشفافة بين معلِّم سينمائي ومادته الإنسانية والدارمية.

 

المصدر: السفير 

آخر تعديل على الأربعاء, 19 آذار/مارس 2014 22:31