أُناس عصر الأزمة النهائية.. من هم؟

أُناس عصر الأزمة النهائية.. من هم؟

على ضوء توسّع دور الوعي في الصّراع الطبقي منذ منتصف القرن الماضي، حيث دخلت الجماهير إلى مسرح التاريخ كقوة فاعلة، بأيديها وأدمغتها، استعرت الحرب على المستوى الإيديولوجي، التي كان الهدف منها تعطيل السلاح الفكري على مسرح التاريخ نفسه، حيث لم يعد من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وكان من شأن ذلك تشويش كبير طال الفكر الثوري الماركسي، كمّاً ونوعاً. تعزز ذلك من اتجاه تفكيكي وانتقائي وتذريري للقضايا، مما حولها إلى مسائل منفصلة. ومنها: التحول الذي طال الإنسان الفرد، وانعكاس الواقع في بنيته الفكرية والشخصية. واليوم، أمام التعطل العميق للنمط الرأسمالي في إنتاجه وعلاقاته وبنيته الفوقية، لا بد وأن يتم طرح قضية الإنسان ككلّ متكامل، طاله هذا التعطّل ككلّ متكامل أيضاً.

بين القضايا والقضية

قد نَنخَدِع غالباً إذا ما صادفنا أن العديد من البحوث والدراسات والمحاولات- التي تخضع قضايا الفرد للنقد التاريخي- تقدم نفسها على أنها مادية وتاريخية. حسناً، لا تكمن الخدعة هنا. بل الخدعة تكمن في أن البنية التي تجمع هذه القضايا غالبا ما يتم استبعادها لصالح التعقيد والتفكيك والتذرير والغوص بحدود كل قضية على حدة، حتى لو كان منطلق البحث يحاول أن يكون علمياً مادياً. هذا ما نراه اليوم مثلا لا في التفكيك السياسي الذي تبديه قوى سياسية يفترض كونها تحمل فكراً شاملاً، بل في تفكيك القضايا الاجتماعية والإنسانية والعلمية... فما يجب أن يتم تجريده هو ما هو الرابط الجامع بين كل هذه القضايا، وتعميم ذلك على المرحلة التاريخية، ربطاً بالتعميم الأساس، ألا وهو توصيف طبيعة المرحلة التاريخية، واستخلاص العبر من أجل الخطوات السياسية المطلوبة. فلا قضية الأزمات النفسية والبحث فيها يكفي بالشكل المطروح غالباً، ولا قضية أزمة العلاقات وحدها، ولا قضية اضطراب الشخصية، ولا مسائل التطرف... كلها يجب أن تقف على أرض مشتركة تجمع هذه القضايا وتربط بينها داخلياً، من أجل تبيان الخط العام الذي يحكمها. بكلام نقول: ما هو القانون التاريخي العام الذي ينعكس اليوم على المستوى الفردي، والذي يتضمن فيه طروحات الماركسية الأساسية؟

الوعي انعكس للواقع

عندما يتم التطرق إلى المقولة الماركسية: الوعي انعكاس (غير مباشر) للواقع، التي تعكس مادية العالم (والوعي كجزء من هذا العالم)، لا يجب تناسي المقولة الأخرى، أي وحدة هذا العالم. إنها وحدة العالم وماديته في آن. وهذا الانعكاس وهو في سياق تحققه، لا يعكس القضايا في انفصالها وتميزها النسبي فقط. بل يعكس الواقع في وحدته، ولكن فقط من الموقع المتميز للفرد النابع من تميُّز موقعه في عملية الإنتاج والتقسيم الطبقي للمجتمع. إذاً الواقع ينعكس بشكل كلّي وموحد في الوعي، ويختلف هذا الانعكاس بين القوى الاجتماعية، تبعاً لاختلاف مواقعها الطبقية. فما هو الجديد التاريخي في عملية الانعكاس تلك، انطلاقاً من الجديد التاريخي في الواقع نفسه؟ وما هو التفارق في هذه العملية بين القوى الاجتماعية المتمايزة وكيف يعيش الأفراد هذا الجديد؟ وما يعنيها بالتحديد: ما هو الجديد التاريخي لغالبية القوى المتضررة على مستوى نتاج هذا الإنعكاس في الوعي والشخصية والحياة الداخلية للفرد، التي تعطي للتجربة الحية معناها، لا في توصيفات خاصة لظواهر تشكل جزءاً من التجربة الكلية نفسها؟

ماركس مجدداً

من بين القضايا التي ضاعت بين ضجيج التشويش والضخ الهائل للحرب الإعلامية والفكرية والأكاديمية، تلك القضايا التي شكلت تاريخياً منطلقات الفكر المادي الماركسي. واحدة من تلك المقولات المكَثَّفة التي عبر فيها ماركس عن توصيف شخصية الإنسان الرأسمالية، كتجسيد لرأس المال نفسه. إن البورجوازي هو رأس المال (كعلاقة) مجسداً في البورجوازي. ومن هنا كل صفات الفرد البورجوازي المنعكسة تجد أصلها في صفات حركة رأس المال وصفاته نفسها. صفة التوسع تجد مكافئها في خصال الجشع. صفة الجبن (رأس المال جبان) تنعكس لدى البورجوازي في صفة الشخص الحذر و«اللص» والذي لا يأمن لأحد. أما صفة الخضوع للربح وحده، التي يمتاز بها الرأسمالي، فإنها تجد مكافئها في لا إنسانية البورجوازي، وتجرده من العواطف والقيم والحسابات الإنسانية، بل الاستغلال المحض هو الحاكِم... أما على النقيض، فإن صفات العمل تجد تجسيدها في الفرد البروليتاري. مثلاً: صفة الشخصية الخاضعة تأتي من واقع خضوع العمل لرأس المال. الشخصية القلقة التي تعكس عدم استقرار العمل أمام أزمات الرأسمالية. الشخصية فاقدة الطموح التي تعكس إغلاق سقف الترقي الطبقي أمام الطبقات المستَغَلة.

التطور التاريخي
والليبرالية الجديدة

مع التطور التاريخي اللاحق، توسّعت الصفات «البورجوازية» لتطال في تلويثها المجتمع بشكل عام في مرحلة الليبرالية الجديدة، حيث ضمت العلاقات الرأسمالية غالبية القوى الاجتماعية، وإن بنسب مختلفة. فما الوهم الفرداني الليبرالي إلا تجسيد لهذه الصفات، على النقيض مما يدعيه الليبراليون حول «إنسانية» الليبرالية وتأثيرها، فهي أسست لتطبيع الأفراد مع الواقع الرأسمالي، وحكماً، مع ميزاته الثقافية والقيمية. فالشخصية البروليتارية فاقدة الطموح صارت «طموحة» عملاً بالوهم المعمم عن النجاح في إطار الرأسمالية نفسها، ومن حل الترقي الطّبقي. صفة الخضوع حلت محلّها ملامح شخصية أقوى نابعة من الشعور بـ «التساوي» الليبرالي بين الأفراد، فالبورجوازي والعامل متساوون بالفرص! أما صفة الخضوع حلت محلها صفة التفلت الوهمي من القيود. حسناً، لدى بحثنا في هذه الصفات المستقلة، خضعنا في ذلك لوحدة حركة التطور الرأسمالي، وانعكاسها في الأفراد. على النقيض، عاشت شخصية البورجوازي خلال عقود الليبرالية الجديدة انعكاس الانتصار المؤقت لرأس المال، من خلال العجرفة والعنجهية المطلقة، فـ «التاريخ قد انتهى» كما قالوا، فلم يعد أمام الرأسمالي شيء يردعه، ولمس هو ذلك. بينما نجد اليوم في مجال العلوم الاجتماعية ملايين الأوراق التي تحاول البحث في خصال الفرد واضطرابه وغيرها من القضايا، بمعزل عن شمولية الرؤية للتحول الذي يطال المجتمع الرأسمالي في كليته عالمياً.

ماذا عن مرحلة الأزمة؟

إذا كانت العلاقات الاقتصادية تجد تجسيدها في وعي الفرد وخصاله، فالمرحلة الليبرالية الجديدة وصلت إلى حدودها التاريخية منذ سنوات. وكان لا بد أن تخلي الساحة لانعكاس جديد، هو انعكاس لاقتصاد الأزمة ولملامح الرأسمالية التاريخية واتجاهات التناقض الذي يعتمل فيها. إن وصول رأس المال إلى حدوده التاريخية كان لا بد أن ينعكس على شكل نقيضين، الأول: هستيريا شاملة لدى البورجوازي، وتوتر قلق مخنوق، تعبير عن الاختناق التاريخي لرأس المال. أليس هذا ما يعبر عنه رموز الرأسمالية «الموتورين» والذين يعانون نكراناً فاقعاً نتيجة معاندة رأس المال للاستسلام!؟ هذه الهستيريا هي التعبير عن موت قادم يجد تعبيره في عملية تجاوز التاريخ للرأسمالية! والثاني: لدى الطبقات المقهورة، نجد خصال الموت المعنوي متمثلة بالتعطل الشديد في الفعالية النفسية والذهنية، والبرود، والذهول المزمن. هذا انعكاس لتعطل عملية الاقتصاد والإنتاج في ظل الأزمة، وانغلاق أفقها. انعكاس لعدم سهولة التقاط الخط الجديد في التطور العالمي. هو ليس فقط انعكاس قوى الإنتاج (والبشر ضمناً) من قبل علاقات الإنتاج، بل أيضاً انعكاس على تدمير هذه العلاقات لقوى الإنتاج، ومنها العقل الإنساني.

عملية الانعكاس اليوم، تنتج أزمة فردية، هي انعكاس للأزمة الموضوعية في النظام الرأسمالي. أزمة تجد ملامحها في الصدمة العميقة التي تعيشها البشرية. الصدمة التي بدأت بالتبلور أكثر فأكثر كلما طال عمر الأزمة. وفي طريقها، تصهر الفرد، فإما يذوب، أو يتصلب أكثر.

لتحميل العدد 993 بصيغة PDF

معلومات إضافية

العدد رقم:
993
آخر تعديل على الإثنين, 23 تشرين2/نوفمبر 2020 15:46