الهجوم ثم الهجوم ضد بقايا النظام الذي يموت
إذا كانت الرأسمالية تتلقى الضربات على رأسها من كل صوب، فعلى النقيض الاشتراكي أن يهجم ويتقدم. كلمة الاشتراكية التي كان يستحي بها «الثوريون» التقليديون، عادت وتصدّرت المشهد خلال أيام محدودة فقط، في حين يظهر الشلّل الذي أُصيب به العقل الإيديولوجي للرأسمالية ومنظريه، مع محاولة بعض منظري الرأسمالية إطلاق الخزعبلات، وتشويه الحدث واحتمالاته القادمة. هذا الهجوم الذي كَبحَه، في المرحلة السابقة، تردُّد العقل «الثوري» التقليدي، ينفتح فضاؤه اليوم.
الانتباه إلى تمرير العفويّة
حتى الأمس القريب كان التّوصيف القائل بأن «الرأسمالية وصلت إلى حدودها التاريخية» لا يلاقي إجماعاً ولا حتى تجاوباً من قبل القوى «الثورية» التقليدية عالمياً. هذا يعني أن هذه القوى كانت ما تزال تعتبر أن الرأسمالية قادرة على تجديد نفسها وتجاوز وأزمتها بأشكال جديدة. هذا ما سبَّب إضعاف الهجوم الثوري على كل الجبهات، حيث سيطر الخط الاقتصادي- الإصلاحي، المهزوم في جوهره والمهادن مع الواقع الليبرالي ممارسياً، المبني على غياب الِمنصة المعرفية التي تستوعب الجديد التاريخي. المِنصّة التي تتضمن فهماً جديداً لتناقضات النظام العالمي بمعنى تهديدها للحضارة البشرية. هذا التردُّد النّظري يتحطَّم اليوم أمام وضوح الحدث الملموس للأزمة العالمية، فالواقع التجريبي يتقدّم على هذا العقل المهزوم، ويُظهِر بشكل فاقع ما كان عصياً على المستوى النظري أمام هذا العقل السياسي «الثوري» التقليدي، في ظل عجز الرأسمالية العملي والإيديولوجي. أمام تقدم الواقع التجريبي باتجاه تعرية النظام العالمي للرأسمالية، يتعزَّز موقع قبول الاشتراكية على مستوى الوعي والإيديولوجياً عالمياً، ولكن هذا لا يعني تلقائياً وبشكل ميكانيكي أنّ المِنصة النظرية التي تمتلك التناقضات التي تحكم الرأسمالية قد صارت منجزة لدى العقل المتردد للقوى الثورية التقليدية. ولهذا، ما زالت هذه القوى تتحرك ضمن إمكاناتها النظرية السابقة، مع تحول ظاهري وحيد الجانب. ولأن عُرْيَ الرأسمالية وحده لا يكفي لتحقيق النقيض الاشتراكي، ما زالت الحاجة قائمة لخوض المعركة النظريّة حول الكشف عن التناقضات العميقة التي سبقت انفجار الأزمة، فلا يكفي تخطي القوى الثورية التقليدية الظاهري لترددها السابق، بل إن عملية انتقال نظري وسياسي عميق ما زالت مطروحة أمامها إن قدرت. فما نراه من تحوّل في الوعي العالمي ما زال عملية عفوية، ولن يتحقق التحوّل دون استيعاب التناقضات التي وصلت إليها الرأسمالية على المستوى الروحي والمعنوي والمادي، وبالتالي تقديم الإجابات النظرية والعملية حولها، وإلا فإن عدم استيعابها سيمنع تحول الإمكان إلى نظام اجتماعي ملموس لا تكفي العفويّة في بنائه.
العفوية وهوامش حركة العدوّ
الأزمة الإيديولوجية للرأسمالية كانت سابقة لانفجار أزمة الرأسمالية العملية الحالية في تفاعلها مع الكورونا وانخفاض أسعار النفط. هذه الأزمة التي عبّر عنها خطاب منظري الرأسمالية عبر الاعتراف بأن النمط الليبرالي مأزوم، ولكن دون الإشارة إلى أزمة الرأسمالية كنمط إنتاج. من هذه النماذج الظاهرة المصطنعة عالمياً للعب هذا الدور التشويشي الصهيوني «يوفال نواه هراري» الذي مررنا على ذكره سابقاً في قاسيون (الرأسمالية المرعوبة تشاركنا التحليل مرغمة، ولكن!). قبل الكورونا حاجج «هراري» بأنه لا يملك إجابات حول الحلول، وبقي على تحذيره من الدول «الدكتاتورية» (ككوريا الشمالية) وهاجم «المخابرات السوفييتية» وبيّض صفحة الكيان الصهيوني، وهاجم التكنولوجيا الحديثة في إمكانية تحوّلها إلى أداة للحكم «الشمولي»، ووقتها دعى للتأمل الذاتي وممارسة اليوغا والسير في الحقول!
أطلّ «هراري» على صفحات صحيفة «الفايننشال تايمز»، في مادة «العالم بعد الكورونا»، ليثبت مخاوفه السابقة حول الأنظمة «الشمولية» واستخدامها للتكنولوجيا الذكية والمخابرات السوفييتية وتشويه كوريا الديمقراطية الشعبية، وتثبيت شرعية الكيان الصهيوني «ومعركته من أجل الاستقلال في العام 1948»، ولكن هذه المرة تقدَّم بمقولات جديدة من وحي الأزمة، وتخلى عن أُخرى ظاهرياً.
تأبيد الرأسمالية وتشويه الأزمة
مع الإبقاء على تغييب الأساس الرأسمالي للأزمة واعتبار أن الأزمة فقط ناتجة عن الكورونا، يطرح «هراري» تخوفه من نماذج الدول ما بعد الأزمة. فهو يهاجم ظهور أنظمة «شمولية» جديدة لمواجهة الأزمة الحالية والأزمات اللاحقة. ويُغيِّب «هراري» الطبيعة الاقتصادية اللاحقة لهذه الدول التي يتكلم عنها مستقبلياً، ما يعبر عن رعبه وكَبْته من تناول التحوّل في النموذج الاقتصادي المأزوم. وفي تناوله للولايات المتحدة ودورها يُعبِّر عن تنازلها عن دورها «القيادي» العالمي، باعتبار أن هذا التخلي يحصل إرادياً من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، ما يشير إلى تغييبه للتراجع الموضوعي للإمبريالية. وهذا التراجع حسب «هراري» أدى إلى «فراغ لم يتم ملؤه من قبل دول أخرى»، وهذا تعبير آخر عن نظرته الفوقية للتحوّل، التي لا تختلف عن طروحات قوى «ثورية» تقليدية، بأن البديل سيكون فقط استبدالاً شكلياً للأحادية القطبية. وفي طرحه لـ«الفرصة» التي تتيحها الأزمة الراهنة، يقترح ضرورة «التضامن والتعاون» على المستوى الدولي، ولكن مع تثبيته للنظام الاقتصادي العالمي، مع ضرورة تغيير في السلوكيات فقط. وفي سياق تخوفه من قيام أنظمة «شمولية»، يقترح «هراري» المنتمي إلى بلده «الأم إسرائيل»، على ضرورة تعزيز المواطنية واقتناع الأفراد بالعلوم بدل فرض الخيار عليهم عبر قوة الشرطة أو أجهزة الدولة. وعلى الرغم من براءة هذا الطرح ظاهرياً، إلا أنه مجدداً ينفي ضرورة التحوّل في النظام الاقتصادي والسياسي، عبر تثبيته لبنية الدولة من جهة، وبالتالي الحفاظ عليها كما هي اليوم، ويتجاهل أشكالاً أخرى للحكم والإدارة الشعبية، للسلطة الشعبية، بل يدعو إلى تعديلات أخلاقية وتقنية وعلمية.
الهجوم ثم الهجوم
يُظهر هذا الخطاب الشلل الإيديولوجي للفكر السائد، ويتطلب هجوم الاشتراكية لملء الفراغ الذي يحاول «هراري» حشوه بنفاياته الرأسمالية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 960