جدول الأعمال الليبرالي كآخر مناورة تاريخية للرأسمالية
محمد المعوش محمد المعوش

جدول الأعمال الليبرالي كآخر مناورة تاريخية للرأسمالية

كثيراً ما يُذكر أن الرأسمالية لكي تفرض جدول أعمالها على القوى الاجتماعية تعتمد عدة إستراتيجيات حسب توازن القوى الطبقي والصراع السياسي في المجتمع. ففي مراحلها الأولى وفي طور تثبّتها كبنية فرضت ذلك بالحديد والنار. ومع دخولها طور أزمتها عالمياً ضمن المرحلة الإمبريالية وقيام الحركة الثورية العالمية قامت الرأسمالية بتنازلات، وقدّمت نفسها على شكل جدول أعمال يحمل عنوان الليبرالية الاجتماعية الفردانية تحديداً، مع كل نمط الحياة المتلائم معها كنمط استهلاكي فاقد لأية مشاريع اجتماعية كبرى، مروجاً لـ«السعادة» السطحية، وأبرزها الكسب المالي والنجاح «الوظيفي» وثقافة قتل الوقت وسوق المخدرات والجنس وغيرها.

أزمة جدول الأعمال الليبرالي

عاش جدول الأعمال الليبرالي قرابة النصف قرن تقريباً في المركز الغربي، وقرابة ربع قرن في الأطراف بشكل عام. ودخل أزمته بـ«هدوء» في المركز مبكراً عبر تعمّق الاغتراب الإنساني إلى مستويات قاتلة للعقل والجسد، ودخل أزمته في الأطراف منفجراً، وتحديداً في منطقتنا العربية التي تحقق فيها حد أدنى من بنى الدولة، عكس الكبح الذي طال تشكل هذه البنى في القارة السّمراء (غير الدول العربية فيها بشكل عام) والتي تنازعتها الحروب والاقتتال والمرض والمجاعة (لعدّة عوامل تاريخية بعيدة تسبق حتى تبلور الرأسمالية عالمياً).
وبسبب تبعيّتها بالذات، أي في حفاظها على أنماط علاقات إنتاج اجتماعية اقتصادية سابقة على الرأسمالية، ودون أن تجري قطعاً ثورياً كالذي قامت به الرأسمالية في المركز ضد البنى الأقدم الإقطاعية، وبالتالي إنتاجها لبنية نفسية وثقافية وعقلية تحمل فيها تناقضات بين ما كان قبل العلاقات الرأسمالية، وتحمل فيها مما هو جديد نابع من دخول علاقات الإنتاج الرأسمالية وانعكاسها على المؤسسات الاجتماعية والدولة وتبلور الشخصية الفردية وحاجاتها، ومختلف البنى الفوقية من أخلاقيات ووعي وأفكار وحاجات نفسية ومعنوية، هذا التناقض في البنية التبعية جعلها في تناقض بنيوي مع جدول الأعمال الليبرالي الذي ظهر مناورة تاريخية للإمبريالية عالمياً في مواجهة المدَّ الثوري في القرن الماضي.
هذا التناقض البنيوي لم يسمح بوجود جدول أعمال تاريخي مناسب للبنى التبعية، فجاء فيه توليفة هجينة بين جدول الأعمال السابق (فرض جدول الأعمال بالقوة)، وبين الجدول الجديد الليبرالي (القمع «الناعم»). كان من شأن ذلك أن يُنتج تسارعاً في الأزمة الاجتماعية، فالهيمنة الإديولوجية للأنظمة القائمة لم تكن ممكنة بشكلها التقليدي. وكما يقول منظرو الماركسية إن الهيمنة الإيديولجية شرط ومبرر للنظام القائم. وإن فقدان الأنظمة القائمة لمبررها هو فقدان فاعلية جدول الأعمال الليبرالي بذاته، ولم يبقَ بيدها غير العنف، أي ترجيحاً لجدول الأعمال الأول بالحديد والنار.

ضرورة جدول الأعمال البديل

فيما سبق تكرار لا بد منه لمواد سابقة، ولكنه مدخل للسؤال المكرر أيضاً: ما هو جدول الأعمال الجديد للبشرية؟ ما هو نمط الحياة الجديد النقيض للمشروع الاجتماعي الليبرالي الذي لا ينفي وجود الفردي الذاتي، ولكنه يتضمنه ضمن المشروع الاجتماعي الأشمل؟ أي إن المشروع الجديد سيقوم بنفي جدلي لليبرالية. ويتضمن عناصرها ونتائجها الاجتماعية الموضوعية، ولكن ضمن بنية لا تكبح تحقيق هذه العناصر كحاجات الذات الفردية للتحقق، وتثبيت القيمة، لا كما كان يحصل طوال العقود الماضية منتجاً الفراغ والجوع المعنوي والروحي في المركز كما في الأطراف. ما سيحصل هو تحرير الذات الإنسانية من اختناقها ضمن البنية الليبرالية بالذات. بالترافق مع تحرير الجسد من حرمانه المادي، كالجوع والبرد وخطر الحرب وغياب الأمن والموت السّهل، ومن تبعات تداخل الأزمة العقلية والنفسية والعاطفية مع الجسدي، التي تزيده مرضاً وتوتراً وتجعله مشروعاً لموت محقق، موت معنوي وموت مادي. هذا لا يمكن أن يكون إلا ضمن سيطرة مشروع اقتصادي سياسي شعبي، نقيض النهب والفساد والسعي إلى الربح والاستغلال.
ولكن جدول الأعمال هذا ضروري أن تتبلور معالمه الواضحة التي تعمل على نفي هذا التناقض بين الذاتي والجماعي الذي ساد طوال العقود الماضية. والفصل بين الجسدي والمعنوي، وهو ما سبب أزمتهما المشتركة.
دور جدول الأعمال البديل هو المشروع الشامل، أي الهدف الحقيقي المعاش لممارسة الأفراد الذي يدفع بهم للنهوض صباحاً، ويجعلهم ينتظرون النهار الجديد. صحيح أنه سيتضمن رفع مستوى الحياة والحفاظ على الوجود في ظل الخطر الوجودي المحقق اليوم، ولكنه سيحقق دوافع أعمق ستجيب عن الأسئلة التي أنتجتها الليبرالية وتركتها بلا إجابة. فكل نظام اقتصادي اجتماعي يجب أن يبرّر وجوده على مستوى الوعي وعبر جدول أعمال محدد، وكونه تقدمياً وإنقاذياً ويفتح باب التقدم والتطور، فإن جدول الأعمال النقيض لليبرالية يجب أن يعكس ضرورات تحقيق الحاجات لا تشويهها وتمويهها.

معالم عامّة

جدول الأعمال هذا هو تعريف وتحديد إيجابي لنفي الليبرالي. نفي جدلي كما قلنا، انطلاقاً من حلّه تناقضاتها الشاملة. أما أي جدول أعمال يجيء عن حل آخر مظهر من الليبرالية، أي أزمتها وأزمة جدول أعمالها فهو تحديد سلبي لنفيها. المعالم العامة لجدول الأعمال هذا لا تنفصل عن الاتجاه العام للاشتراكية كما تم التعبير سابقاً، أي التوزيع العادل للثروة والإدارة معاً. فهذان العاملان سيحلان التناقض في جدول الأعمال الليبرالي، ومجمل تناقضات الرأسمالية المؤسسة للإغتراب الفردي. فتغيير علاقات الإنتاج والقاعدة الاقتصادية بالتوازي مع تغيير واعٍ لما هو متلائم معها من البنية الفوقية (هنا التوزيع العادل للإدارة وشكل البنية السياسية للدولة) سيجعل من تغيير البنية الفوقية عاملاً رافعاً ومساعداً لتحقيق تطور أسرع في البنية التحتية، وهذا ما قيل سابقاً أنه شرط لتحقيق مستوى تنمية كبير من جهة، وتأمين قاعدة استقرار للنموذج الاقتصادي الاجتماعي الجديد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
952
آخر تعديل على الأربعاء, 12 شباط/فبراير 2020 11:21