المسألة الفنية- الأدبية بين التبسيط والبنية المعقَّدة
محمد المعوش محمد المعوش

المسألة الفنية- الأدبية بين التبسيط والبنية المعقَّدة

في محاولة تناول الظاهرة الفنية والأدبية (إنتاجا وتذوقاً) في المرحلة الراهنة واجهتنا أزمة، ومحاولة حلّها أسّست في ذات الوقت للردّ على اتهام نرى ملامحه تتشكّل بشكل مبطّن. الأزمة هي: بحث مسألة الظاهرة الفنية في بعدها النّفسي المباشر، والتشديد على دور الدينامية النفسية في المرحلة التاريخية الراهنة لتفسير التيار الفني- الأدبي. 

هنا أطلّت بوضوح قضية كانت تتبلور مع الوقت وبشكل تجريبي هي: تضخّم الجانب النفسي عند تحليل أية ظاهرة راهنة، فاستذكرنا حادثة محدّدة تدلّ أن الظاهرة بحاجة إلى تناولها الجدي والرد على النقد «التدميري» حولها. منذ سنوات وفي أحد الاجتماعات المتمحورة حول ضرورة تطوير وتعميق برنامج الحركة الثورية، والذي أخذ الجانب النفسي فيها حيزاً مهما، اعترض أحدهم وقال: أنتم تبالغون بتعظيم الطابع النفسي، وتصبغون ملامح النقاش كله به. وقتها اقتصر الردّ عليه أن اعتراضه فيه ملامح موقف غير علمي. نسترجع هذه الحادثة لا لذاتها، بل لأنه فعلاً هناك تضخّم فعليٌّ في الجانب النفسي في المرحلة الراهنة يظهر عند تناول ظواهر البناء الفوقي السياسية والإيديولوجية والفكرية، والتي تتخطى الفردي الضيق لكي تطال التيار العام وقانونية الوعي والممارسة، أي المرحلة. فهل هذا التضخّم نابع فقط من ردة الفعل على تغييب الجانب النفسي في الرؤية الخاصة لدى قطاع كبير من قوى التغيير الثوري. وبالتالي، هو ما يدفع إلى المبالغة في دوره، أم هو نابع من وزن الجانب النفسي في الواقع وتحديداً في المرحلة الراهنة؟ يبدو أن السبب هو الاثنان معاً. دور العامل النفسي هو بدهية في النقاش، ولكن ما ليس بدهياً هو تضخم دوره الراهن، وهنا مكمن القضية المطروحة.


عن بليخانوف على لسان فيغتوسكي

في أطروحة مبكرة (في العام 1925) لمؤسس علم النفس السوفييتي ليف فيغوتسكي عن «سيكولوجيا الفن» لا نجد فقط مسألة علاقة علم النفس بالفن مطروحة، بل نجد توسعاً ومعالجة للمستوى النفسي الذي يقع كحلقة أساسية في الترابط العضوي بين البناء التحتي الاقتصادي، والفوقي (الأخلاقي والوعي والفن و..) للمجتمع. في هذا النص تنتصب أمامنا أسس مهام جديّة وصعبة إذا ما أردنا التعمق في ظواهر المرحلة الراهنة، ليس فقط الفنية والأدبية منها، بل مجمل ظواهر الوعي والممارسة. ويضع النص منطلقاً لتفسير هذا التضخم، الذي نرى أنه فعلاً موجود لدى تناولنا للقضايا الراهنة، وللرد في ذات الوقت على المعترضين على هذا التضخم والمحاولين إظهاره وكأنه نابع من رغبة إرادوية. وبالتالي، يدفع هذا الاعتراض بالنقاش بشكل تلقائي نحو التبسيط والجمود والميكانيكية.

في النص يعود فيغوتسكي إلى الماركسية عامة، ويشير إلى بليخانوف لدى تناوله علم الجمال، ويقول إن لدى بليخانوف تسلسلاً معيناً للترابط بين البناء التحتي والفوقي. الأول: هو حالة قوى الإنتاج. الثاني: الظروف الاقتصادية، ثم النظام الاقتصادي الاجتماعي، ومن ثم يأتي مستوى «نفسية الإنسان»، ولاحقاً يأتي المستوى الإيديولوجي (الذي يضم الفن والتفكير والموقف العام من العالم) القائم على هذه «النفس». ويؤكد فيغوتسكي أن دور الوجود الاجتماعي في تشكيل الوعي يمر عبر بنية النفس المتلائمة مع هذا الوجود. هذا الموقف هو ما تقول به الماركسية عامة بأن انعكاس الوجود الاجتماعي ليس ميكانيكياً بسيطاً، بل معقد وجدلياً وتفاعلياً. ويقول فيغوتسكي «هكذا، فإن نفسية الإنسان الاجتماعي تُرى كأساس عام مشترك للإيديولوجيا في مرحلة تاريخية محددة، ومنها الفن... وبأن الفن يتحدد وهو مشتَرِط بنفسية الإنسان الاجتماعي».

ويضيف فيغوتسكي، بأن هذه النقطة المنهجية حول توسط المستوى النفسي ليست ثابتة من حيث الوزن تاريخياً، بل متحوّلة مع تحوّل الشروط التاريخية. ويضيف بأن التطور التاريخي يحكم بتوسع المستوى النفسي مع تطور المجتمع التاريخي. وهنا يأخذ مثالاً عن بليخانوف أيضاً، بأن رقصة السكان الأصليين في أستراليا مرتبطة مباشرة ومعبرة عن فعل الحصاد والزراعة، بينما لا يكفي لتحليل الرقص الكلاسيكي في فرنسا في القرن الثامن عشر أن نعرف حالة الاقتصاد والإنتاج الفرنسي، فالعلاقة أعقد من مجرد انعكاس مباشر بين الممارسة الإنتاجية وبين الظاهرة الفنية والجمالية. فما بالنا اليوم بعد تعقد العلاقات الاجتماعية وتوسع الجانب الذهني ودور الوعي في المجتمع، وانعكاس ذلك على تعقد البنية النفسية وعلاقتها مع الواقع.


عودة إلى البداية

كما قلنا، إنّ محاولة التصدي لمسألة الظاهرة الفنية نقلت النقاش إلى مسألة قد تكون قريباً مَحطّ صراع إيديولوجي ضمن خط التغيير نفسه، وهي حسب البعض معترضاً: «لماذا تضخّمون الجانب النفسي في النقاش البرنامجي؟َ!». وفي المساحة المتبقية من المادة: كيف يمكن للنمط الليبرالي المميز للمرحلة التاريخية الراهنة وبنيته النفسية (مع الفروقات بين المجتمعات) أن تطبع الظاهرة الفنية والأدبية بملامحها؟

في كتيّب «الماركسية والشعر» يقول جورج تومسون وهو شيوعي بريطاني إن الموقف الجمالي والفني لا ينفصل عن الحلم الإنساني وطموحاته والمعاناة الناتجة بين الواقع والرغبة. هكذا مثلاً تأسس التيار الرومنسي في ظروف انهيار العلاقات الاقطاعية كرد فعل محافظ. وإذا كانت الليبرالية أسست لدى القوى الاجتماعية المقهورة موقف قبول الواقع، وهو ما أسس لبنية نفسية «هاربة» من المعاناة نحو «السعادة» الوهمية في الواقع الرأسمالي نفسه، وأقصى علاقتها الفنية في التعبير «الذاتي الفردي» الذي يقع على مسافة «نفسية» من معاناته. هكذا انهار مصدر الإنتاج الفني والأدبي إنتاجاً وتذوقاً، لأنها عملية حسب «غوته»: بلورة جوهر الظاهرة وتبيانها لمن لا يستطيع النطق بها. أمَّا الانحدار الفني والأدبي يبدو أنه ظاهرة أعمق، بحاجة إلى التناول المستقل بعيداً عن التحسّر والنظرة الماضوية، وتحتاج اتجاهاً فنياً يستند إلى بعد سياسي جذري يبتعد عن الموقف الليبرالي بالضرورة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
930
آخر تعديل على الأربعاء, 11 أيلول/سبتمبر 2019 15:24