«العربة الذهب» لجان رينوار: وصية النهاية لشاعر سينمائيّ

«العربة الذهب» لجان رينوار: وصية النهاية لشاعر سينمائيّ

حين رحل المخرج الفرنسي جان رينوار عن عالمنا قبل ثلث قرن من الآن تقريباً، تنوعت توجّهات الأقلام المؤبّنة له في وصفه، فتارة هو شاعر السينما، وطوراً هو سينمائي الواقع الفرنسي... وفي غالبية الأحيان هو سيد الانطباعيين في سينما ملتزمة، غير موفرة البورجوازية في انتقاداتها. اليوم، بعد كل هذا الزمن قد يكون من الأكثر بساطة، والأكثر منطقية وقرباً من مجموع أعمال جان رينوار، أن نقول إن الوصف الوحيد الذي ينطبق عليه هو «السينمائي»، ذلك أن ابن الرسام الانطباعي الكبير بيار - أوغست رينوار، والفنان الذي اختتم حياته الفنية بفيلم يحمل ألف دلالة ودلالة عنوانه «مسرح جان رينوار الصغير»، جعل المشهد الأخير في هذا الفيلم يقول كل شيء: ممثلو الفيلم يقفون في نهاية المشهد في صف كما لو كانوا على خشبة المسرح، ليودعوا الجمهور... كما في عرض مسرحي حقيقي. شيء مثل هذا كان فعله الرسام الأميركي إدوارد هوبر في واحدة من لوحاته الأخيرة، حيث صوّر نفسه وزوجته على سطح مبنى صغير يودعان مشاهدي اللوحة. إنها حركات لا تقول في نهاية الأمر سوى شيء واحد: كل هذا الذي شاهدتموه، لم يكن حياة الواقع ولا واقع الحياة، كان الفن وقد تحولت إليه الحياة لتصبح جزءاً منه أو لتندمج فيه وتدمجه في بوتقتها.

طبعاً، عند بدايات جان رينوار السينمائية، لم يكن مثل هذا الاستنتاج ممكناً. فمحقق أفلام مثل «الوهم الكبير»، و «قواعد اللعبة» (وهما فيلمان يحسبان عادة بين أفضل مئة فيلم في تاريخ الفن السابع)، غاص في قضايا النقد الاجتماعي والسياسي، وغاص حتى في السياسة مباشرة أيام حكم «الجبهة الشعبية» في فرنسا (النصف الثاني من سنوات ثلاثينات القرن العشرين) إلى درجة بدا معها وكأنه يبدّي السياسي والأيديولوجي على الفني... لكن سنوات العمل الطويلة، ثم المنفى الأميركي خلال الاحتلال النازي لفرنسا، كان لا بد لها جميعاً من أن تحدث فيه ذلك التبدّل الأساس، معيدة إياه إلى الفن كنشاط مواز للحياة، بل كخالق للحياة الحقيقية. وهذا ما نرصده لديه، في شكل خاص، في فيلم «العربة الذهب» الذي اقتبسه، بتصرف، عن قصة لبروسبير مريميه، صاحب نص «كارمن» الذي اقتبست عنه الأوبرا الأشهر في تاريخ هذا الفن.

«العربة الذهب» حققه جان رينوار في عام 1952، أي بعدما كان عاد من الولايات المتحدة، حيث أمضى سنوات الحرب العالمية الثانية، كما عاد من الهند حيث حقق فيلم «النهر»... وهو عاد من كل ذلك التجوال وقد حدث لديه تبدّل حقيقي: أدرك أنه بَعُد في الماضي عن الجوهر، حتى وإن كان حقق دائماً أفلاماً كبيرة. وهذا الجوهر هو الفن نفسه، اللعبة الإبداعية التي يختلط فيها الواقع بالخيال، خالقاً بعداً جديداً. من هنا، لم يكن غريباً أن يطرح رينوار على نفسه، قبل تحقيق «العربة الذهب»، وخلال تحقيقه، وبعد ذلك، جملة من أسئلة لا يمكن أن يطرحها على أنفسهم سوى الفنانين الكبار الحقيقيين: «أين هي الحقيقة، أين تبدأ الحياة... أين ينتهي المسرح؟»، ويصل رينوار من خلال مثل هذه الأسئلة إلى اليقين - الذي سيقول عنه آخر أيامه، إنه اليقين الوحيد الذي توصل إليه طوال حياته: انطلاقاً من هذا كله، واضح أن دور الفنان، بالنسبة إليّ، محدد تماماً: إن الفنان لم يخلق من أجل ما نطلق عليه اسم الحياة، بل من أجل أن يشغل مكانه الحقيقي بين الفنانين، بين البهلوانات، بين المقلدين، بين المهرجين... حيث يمكنه أن يعثر على سعادته، في كل مساء، خلال ساعتين على الأقل ينسى خلالهما نفسه ومن يكون ولماذا هو كائن.

والحقيقة أن هذا الاستنتاج، ليس الاستنتاج الذي يتوصل إليه رينوار وحده، بل هو نفسه ما تستنتجه الشخصية الأساس في «العربة الذهب» الممثلة الفاتنة كاميلا المعروفة فوق الخشبة باسم كولومبين (وقامت بدورها آنا مانياني في واحد من أجمل الأدوار التي أدتها على الشاشة)... إذ إن كاميلا عند نهاية الفيلم وبعد أن تنتهي الأحداث كلها، تدرك أنها لم تدرك في حياتها كلها سوى حقيقة واحدة: المسرح هو هواها الأول والأخير... هي التي كانت تعتقد قبلاً أنها كانت مقبلة على الحياة، وعلى متع الحياة بلا هوادة، فإذا بها تجد نفسها أمام تلك الحقيقة فتشعر بالسعادة الحقيقية للمرة الأولى في حياتها. المسرح هو هذه الحياة، وهو هنا الباقي لها بعد أن تكون خسرت كل شيء.

إذاً، هذه هي النهاية التي يوصلنا إليها فيلم «العربة الذهب» الذي ينظر إليه كثر من النقاد ومن دارسي حياة جان رينوار وأفلامه على أنه «الوصية الفنية لرينوار»، وبالأحرى، الجزء الأول من سلسلة أعمال حملت «وصيته» الفنية بدأت بهذا الفيلم لتنتهي مع «مسرح جان رينوار الصغير». ولقد استحق «العربة الذهب» هذه الصفة لأنه أتى، في حقيقته، توليفة رائعة بين لغة السينما وهوية المسرح وبهاء الفن التشكيلي، وروعة الموسيقى، وكل ذلك على خلفية نظرة فلسفية إلى الحياة.

وقد أتى هذا كله متحلقاً حول موضوع بالغ البساطة، لكن لمناخه من التركيب والتوليف ما يجعله متشعباً، فكرياً وبصرياً في الوقت نفسه: والموضوع تدور أحداثه في مستوطنة إسبانية في أميركا الجنوبية، لم يحدّد اسمها تماماً. والزمان هو القرن الثامن عشر، حيث كانت المستوطنة تعيش حياة عادية، حتى اليوم الذي تصل إليها فيه فرقة فنية تقدم أعمالاً مسرحية من طراز «الكوميديا ديل آرتي» للترفيه عن الواصلين الجدد تباعاً إلى تلك المستوطنة. وعلى رأس تلك الفرقة بطلتها النجمة كاميلا (كولومبين). ومنذ وصول الفرقة، يتزعزع الهدوء في تلك المنطقة، ليس نتيجة الأعمال الفنية التي تقدم، بل نتيجة فتنة نجمة الفرقة وجمالها الأخاذ الذي يبهر قلوب الجميع، بدءاً بنائب الملك الذي يهيم بها حباً، ويصل به الأمر إلى حد إبداء الاستعداد للتنازل عن منصبه ومكانته من أجل حبها... لكن كاميلا لا تبادله الهوى الحقيقي، وإن كانت توحي له بذلك، خصوصاً أن من بين الآخرين الذين هاموا بدورهم حباً بها، هناك مصارع ثيران شهير تهيم من أجله قلوب النساء. وبين هذا وذاك، هناك بقية القوم، ولكن، أيضاً هناك السكان العاديون الذين يبجل معظمهم مصارع الثيران، فيما يعيشون خوفاً مقيماً من نائب الملك... مثل كل شعب مسكين أمام قوة السلطة، وسلطة الإبداع...

لكن هؤلاء ليسوا كل شيء هنا، إذ هناك أيضاً الهنود الحمر من سكان البلاد الأصليين... الذين ينظرون شذراً إلى كل هذا العالم الغريب الغازي بلادهم المحيط بهم... وينتظرون فرصة سانحة لشن الحرب على الجميع. وحين تسنح تلك الفرصة ويبدو أن الصراع سيندلع من دون هوادة، تتدخل كاميلا مضحية بالشيء المادي الوحيد الذي تملكه: عربة من ذهب كان نائب الملك أهداها إياها، لئلا تحول دون وقوع الصراع الدموي بين الأفرقاء كافة. أما هي، فإنها ستعود إلى المسرح... إلى حياته الحقيقية.

حين حقق جان رينوار (1894 - 1979) هذا الفيلم، كان في السادسة والخمسين من عمره، وكان مجده السينمائي كله قد أضحى وراءه... من دون أن يعني ذلك أن الأفلام التي حققها خلال العقود الأخيرة من حياته لم تكن مهمة، بل على العكس، ربما سيُكتشف يوماً أن رينوار هو في الأفلام الأقل شهرة من بين أفلامه، أكثر مما هو في الأفلام الشهيرة (والتي كان واحداً منها هو «الوهم الكبير» يصنف أولاً بين أعظم 10 أفلام في تاريخ السينما أحياناً). المهم أن جان رينوار يعتبر دائماً من أكبر صانعي السينما في تاريخ هذا الفن ومن أفلامه الكبيرة الأخرى «الكلبة» و «بودو وقد أنقذ من الغرق» و «فرانش كان كان»... وغيرها من أفلام لا يزال معظمها حياً حتى أيامنا هذه، لا يريد للنسيان أن يلفه في أي شكل.

 

المصدر: الحياة