الليبرالية تشويه الزمن ومقتل التاريخ
محمد المعوش محمد المعوش

الليبرالية تشويه الزمن ومقتل التاريخ

يُعتبر النّقاش حول الزّمن جزءاً من الجدل/ الصراع الدائر في مجال الفيزياء والكونيّات، ويمكن تلخيص ذلك بنظرتين: واحدة ترى الزمن قادراً على الرجوع للخلف وبالتالي يمكن أن ينعكس مجرى سير الكون للوراء حسب زعمهم، والنظرة الأخرى هي أن الزمن يسير للأمام بشكل ثابت.

وإذا أخذنا جانب النظرة الثانية: (الذي تدافع عنه المادية التاريخية)، يمكن القول: إن الزمن هو ترابط اللحظات المتتالية. فالواقع القائم: هو حركة متصلة يُخلق الحاضر من قلب الماضي (الذي كان قبلاً هو الحاضر)، ليصير الماضي متضمناً في الحاضر (الحالي)، كما سيصير الحاضر الحالي هذا نفسه في قلب المستقبل (الحاضر الجديد القادم). وهذا الإنتقال للوجود المادي في حركته المتتابعة بشكلها الجدلي هو ما يمثل تاريخ الظاهرة الكونية. وهو نفسه أيضاً يمثل تاريخ المجتمع وتاريخ الأفراد فيه. وتشويه مفهوم الزمن هذا لا يتضمن فقط تشويها للنظرة الفيزيائية للكون والوجود، التي تدعّم بدورها مفهوماً أسطورياً عن العالم ومن ثم عن المجتمع، بل إن هذا التشويه له تبعات مخفيّة في الوعي الفردي السّائد الذي قد يأخذ أشكالاً مختلفة في تفاصيل حياة ومعركتها.

هوليود والسفر عبر الزمن

شكلت مادة السفر عبر الزمن موضوعاً متكرراً لأفلام هوليوود. هذه الأفلام مقترنة إما بصراع بين عوالم مختلفة بين المجرات، لتثبت بذلك أن الصراع بين الخير والشر هو بين عالم خيّر بذاته (قد تكون الأرض أو شعوب مجرة ما) وعالم شرير بذاته (قاطنو مجرة أخرى مثلاً) حيث تقدر فيها بعض التقنيات المتطورة الإنتقال بالزّمن، وهي بذلك تنقل الصراع بين قوى طبقية إلى صراع مطلق، هو: تعبير عن الصراع الشوفيني ولكن على مستوى مجرّي وكوني، لتعكس بذلك، إلى جانب فكرة السفر عبر الزمن الفرضية حول تشويه طبيعة المجتمع والكون. وإمّا أن هذه الأفلام تقترن بمأساة بطل الفيلم، الذي يريد أن ينتقل إلى الماضي ليصلحه حتى يلغي مأساته، والذي يفشل غالباً في ذلك. والمقصود هنا هو تمرير فكرة «القبول والتسليم» السلبي بما حصل. لأن القبول بالماضي وعدم إمكانية تغييره له على العكس شكل «تقدمي» هو منع وقوع الخسارة نفسها لاحقاً، وهذا لا يمكن إلّا من خلال التحكم بالحاضر نفسه وقوانينه، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى الحزن الإنساني. وهكذا تكون فكرة السفر عبر الزمن تخدم فكرة تأبيد الواقع.

تشويه الذاكرة الفردية

الشكل الآخر من تشويه الزمن هو «إلغاؤه» عبر أسره في اللحظة، حيث تشتهر مقولات الليبرالية السائدة بالكثير من مفاهيم الإرضاء الآني والارتهان للحظة الآنية، وذلك للهروب من فكرة طغيان عدم الرضى والمآسي، وبالتالي تأتي فكرة نسيان الماضي وعدم التفكير بالمستقبل لتخدم فكرة الهروب من القضايا التي تشكل بالنسبة للإنسان همّاً وجودياً أو حياتياً مباشراً. فتقول له هذه «النصيحة»: انسى ما حصل، ولا تفكر بالقادم، اهتم فقط بـ «الآن» واستمتع باللحظة. وهذا هو التعبير الصريح عن الانسحاب من التفكير بالمشاكل المطروحة، لأن اللحظة الراهنة لا يمكن فكّها عن الماضي ولا عن المستقبل، فهي نتاج هذا الماضي، وتؤسس للقادم في ترابط الحركة الجدلية الشاملة. هذا الطرح موجود وبكثرة في الاقتباسات التي يمتلئ فيها «فيسبوك» مثلاً، ويتم مشاركتها بشراهةٍ ونَهمٍ عاليين. هذا «التفريغ» للذاكرة: هو فعل مضاد للتغيير، فالتعب الذي يحمله التفكير بمعاناة الماضي والانهيارات القادمة هو حالة ضرورية للعقل لكي يعكس الواقع وحقيقته. وإلا فإن الفرد بذلك «يستريح» فيفقد مادة قوته التاريخية التي تشكل بالنسبة له «القصة» التي يستند عليها في ربط واقعه والوصول إلى خلاصاته، والدروس، ليبني موقفه في مجابهة واقعه. وهذا الهروب من الذاكرة يشكل في ذات الوقت مدخلاً لـ «السعادة» السريعة والسهلة التي تقع في جوهر ثقافة الاستهلاك والترفيه الليبرالية السائدة.

الخطر الأكبر على العقل النظري

كون العقل النظري القادر على تعميم الدروس من الواقع والتاريخ لا يولد خارج عقل الأفراد، فإن ضرب الذاكرة ومفهوم الزمن وحصر التفكير بالحاضر، دون الماضي والمستقبل، تسلب الفكر النظري قدرته على بناء الصيرورة التاريخية التي لا ترتبط فقط بعدة عقود من الزمن، بل هي صيرورة تمتد على مراحل زمنية طويلة قد تصل إلى عمر التشكيلة الاقتصادية. ففي حالة الرأسمالية مثلاً: تصل هذه المرحلة إلى عدة مئات من السنين. والوصول إلى تقييمات حول هذه المرحلة نفسها يتطلب التوسع في التقييم التاريخي ليصل إلى زمن المجتمع البشري ككل. إذاً: إنّ ضرب صورة الزمن وحركته في عقل الفرد، تكبح بقوة تطور عقل نظري هو ضروري في كل مرحلة لإنتاج تعميمات خاصة بالمرحلة، كضرورة للممارسة من أجل التغيير.

ضرب مفهوم الزمن في ممارسة الإعلام السائد

يمكن تقييم أداء الإعلام السائد في مرحلة الليبرالية الجديدة طوال العقود الماضية: أنه يصبّ في هذا الاتجاه السهل لحصر الفكر باللحظة والآني السريع. فيبقى الفكر ينتقل من حدث إلى آخر. وهو ما استشرفه مهدي عامل في آخر مؤلفاته وسماه «الفكر اليومي»، الذي «يلهث وراء الواقع» بسبب عجز الفكر عن الارتقاء عن الحدث. الفكر اليومي الذي يجد تكثيفه في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، التي نقلت حالة الفكر التبسيطي من «يومي» (في زمن الجريدة اليومية) إلى مستوى أخطر هو الـ «لحظي» (زمن المعلومة في كل ثانية). وهذا ما يهدد الفاعلين في الحقل السياسي المباشر، وهو يهددهم فعلياً. وما أكثر المتساقطين في اللحظي هذا على جدران مهزلة فيسبوك المأساة. فكما يقول غوته: «الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة»

معلومات إضافية

العدد رقم:
917
آخر تعديل على الأربعاء, 12 حزيران/يونيو 2019 16:02