برازخ العالم الروائي لحنا مينه
نبيل سليمان نبيل سليمان

برازخ العالم الروائي لحنا مينه

ليس من المؤكد أن حنا مينه قد ولد عام 1924، وأنه الآن في التسعين. ذلك أن تدقيق الآباء والأمهات والسجلات الحكومية لتاريخ ولادة الأبناء والبنات، لم يكن متوافراً أو كبيراً في الغالب في سوريا، إلا لفئة الموظفين والمثقفين ورجال الدين، ولم يكن نسب حنا مينه في هذه الفئة، بل على العكس، كما عبّر في ثلاثيته السيرية (بقايا صور) وفي مقابلات وأحاديث جمّة، حيث ظهر الأب غير مبال بأسرته. وليس افتقار تاريخ الولادة للدقة حكراً على حنا مينه، كما تؤكد سير الكثيرين من أقرانه وممن سبقوه أو تلوه حتى منتصف القرن العشرين، وحسبي أن أضرب مثلاً بآخر الشعراء الكلاسيكيين العرب الكبار: بدوي الجبل.

والأمر كذلك، ربما كان حنا مينه في الثانية والعشرين، أو في ما حولها، عندما كتب قصته القصيرة الأولى (طفلة للبيع). وربما كان في الثلاثين، أو في ما حولها، عندما صدرت روايته الأولى (المصابيح الزرق). وبالتالي، فنحن الآن في الذكرى الستين لصدور باكورة حنا مينه الروائية، والتي رسمت البرزخ الأول لما سيغدو بعدها بثلاثين عاماً ـ أقلّ أو أكثر بقليل ـ فصاعداً، العالم الروائي لكاتبها. أما "البرزخ" فهو حارة القلعة من مدينة اللاذقية، أي هو برزخ الحارة الذي ستعززه روايات أخرى للكاتب: (حارة الشحاذين ـ 1975) وجزؤها الثاني الذي حمل هذا العنوان (صراع امرأتين ـ 2002)، وكذلك هي حارة (الصاز) من ميناء اسكندرون، أي (المستنقع) كما صورت الرواية التي حملت هذا العنوان عام 1977.

بسبب فراره من سوريا إثر ملاحقة دولة الوحدة السورية المصرية (1958 ـ 1961) للشيوعيين، فقد طوّف حنا مينه في لبنان والصين والمجر قبل أن تصدر روايته الثانية (الشراع والعاصفة ـ 1966) بعد اثني عشر عاماً من روايته الأولى، وإن يكن الكاتب قد أكّد أنه كتب هذه الرواية إبّان نشر روايته الأولى. والمهم هنا أن (الشراع والعاصفة) ستعلن عن البرزخ الثاني والأكبر في العالم الروائي لصاحبها: (البحر)، كما ستعلن بقوة عن هذا الذي سيحمل لقب (أديب البحر)، وسيعض على اللقب بالنواجذ والأنياب، على الرغم من الأصوات التي ستشكك في اللقب بعد عشرات السنين، لترى في حنا مينه أديب الشاطئ، وليس أديب البحر، تأسيساً على أن فضاء رواياته (البحرية) هو الشاطئ، وأن بحارتها (متقاعدون) يجترون ذكرياتهم البحرية. وسواء أصح ذلك أم لا، فالبحّارة هم عمدة القول بالبرزخ الثاني في العالم الروائي لـ(أديب البحر). وعمدة العمدة هو "الطروسي" الشخصية التي وسمت الملحمية مغامرته في (الشراع والعاصفة). لكن المغامرة التي حطمت عاصفتها مركبه (المنصورة) رمت بالطروسي في ميناء اللاذقية الذي سيكون أيضاً فضاء رواية (نهاية رجل شجاع ـ 1989). وكما في المقهى الذي فتحه "الطروسي" سيكون أيضاً في مقاهي الميناء في الرواية الثانية: لقاء البحارة ومطرح الصراع واستعادة المغامرات البحرية وغير البحرية. لكن أولاء كما في روايات أخرى، سيظلون نكرات تحفّ بالمعارف، أي بأبطال الروايات البحرية، يتقدمهم البحار المجرّب كالطروسي: صالح حزوم في الجزء الأول من ثلاثية (حكاية بحار ـ 1981)، والذي اختفى بعدما غرق مركبه، ليخلفه ابنه البحار سعيد في الجزأين: الثاني (الدقل ـ 1982) والثالث (المرفأ البعيد ـ 1983). وقد عاد حنا مينه إلى البحار صالح حزوم وإلى ابنه البحار سعيد في رواية (الرجل الذي يكره نفسه ـ 1998)، حيث يتوحد الراوي "دعبس الفتفوت" بصالح الذي لا يزال حياً، لكنه هارب من الحب، بينما ابنه يبحث عنه.

 

برزخ الغابة

تقدم رواية (الرحيل عند الغروب ـ 1992) البحار اللجاوي وهو يستعيد مغامراته البحرية إلى أن يعود إلى البحر، ويصارع العاصفة وينتصر. كما تقدم رواية (البحر والسفينة ـ 2002) التي تذكّر برواية جبرا ابراهيم جبرا (السفينة)، شخصية القبطان السابق "بدر الزرقا" الذي عاف البحر إثر خطأ فادح. ومن رواية إلى رواية ترتسم صورة البحار بين الصلابة والشجاعة والشهوانية والقسوة والعشق والوفاء، كلما كان البحار بطلاً للرواية، كما تظهر فيمن هو دون ذلك الضعة أو الغدر والجهالة والجشع.

بعد برزخ البحر يأتي برزخ الغابة. ويمكن توحيد البرزخين باسم برزخ الطبيعة. فإلى (الغابة) يلجأ "المرسنلي" إثر قتله للخمّار اليوناني في رواية (الياطر). وثمة يلتقي البدائي المتوحش بالراعية التركمانية "شكيبة" فيبرأ من عهده الأول مع عاهرته "أزنيف" التي اقتحم ابنه عليه خلوته بها، فكاد أن يقتله. ولرواية (الفم الكرزي ـ 1999) ستكون الغابة فضاءً، كما سيكون البحر، بينما تنفرد الغابة في رواية (النجوم تحاكم القمر ـ 1993) وفي رواية (حين مات النهر ـ 2003).

 

برزخ المرأة

بعد الحارة والطبيعة (البحر + الغابة) يأتي برزخ المرأة الذي تتربع عليه ماريا من (الشراع والعاصفة) و"كاترين الحلوة" معشوقة "صالح الحزوم" وابنه من بعد، و(شكيبة معشوقة المرسنلي) و(سلافة معشوقة اللجاوي)... وللبغيّ في هذا البرزخ حضور طاغ ومميّز، ليس ابتداءً بزنّوبة في (بقايا صور)، ولا انتهاءً بـ(غنوج الزرقا) في رواية (حارة الشحاذين)، أو بمنافستها (شكوس) التي ستقتلها، أو بامرأة القبو في رواية (الشمس في يوم غائم طويل ـ 1973). وكما في الروايات العربية التي شغلها الآخر الأوروبي بخاصة، عبر المرأة والجنس، كان الأمر في عدد من روايات حنا مينه، سوى أن الآخر هنا كان الشرق آسيوي (الصين) وما عرف بالغرب الاشتراكي قبل سقوط الاتحاد السوفياتي وكواكبه. ففي الثلاثية السيرية (حدث في بيتاخو ـ 1995) و(عروسة الموجة السوداء ـ 1996) و(المغامرة الأخيرة 1997) تتدافر النساء على صدر ظل الكاتب: (زبيد الشجري البوهيمي) الدون جوان، ومن أولاء تتميز الصينية (تشين لاو) وقبل الثلاثية ظهرت (بيرو شكا المجرية) في رواية (الربيع والخريف ـ 1984) و(ليديا البرتغالية) في رواية (حمامة زرقاء فوق السحب ـ 1988) و(بربارة البلغارية) في رواية (فوق الجبل تحت الثلج ـ 1991). وفي سائر هذه الروايات السيرية بدا ظل الكاتب الظليل السكّير الذي لا يرتوي، زير ومعبود النساء، أي بدا ذكورياً ربما بأسوأ معاني الكلمة، فالأنثى هي فقط الغرض الجنسي لهذا الكاتب الفحل اليساري المنفي من بلده الذي تسمّى بكرم المجاهدي أو بزييد الشجري، وتسمى في روايات سيرية أخرى بأسماء أخرى، مثل (دعبس الفتفوت) في رواية (الرجل الذي يكره نفسه) أو فياض في رواية (الثلج يأتي من النافذة ـ 1969) أو (عناد الزكرتاوي في رواية (النجوم تحاكم القمر). وقد حُق في كل هذه الروايات السيرية ما خاطب به (ديمتريو) نفسه في رواية (مأساة ديمتريو ـ 1985)، ومن ذلك: "أيها الوغد ـ يا جوّاب الآفاق.." ولعل الإشارة في هذا السياق ضرورية إلى ما شغل بعض روايات حنا مينه من الآخر اليوناني في هذه الرواية، ومن الآخر الأرمني في رواية (الفم الكرزي)، وفي رواية (الولاعة)، وقد سبقت الإشارة إلى (شكيبة التركمانية) في (الياطر).

* * *

ثمة برزخ آخر أقل شأناً، ولكن لا ينبغي إغفاله، وأعني به شخصية المرشد أو المعلم الذي يحضر بمثابة الأب أو صديقاً أو قائداً يسارياً شيوعياً أو نقابياً، ليأخذ بيد بطل الرواية الأصغر سناً وأقل تجربة وثقافة وخبرة. هكذا تشكل (سعيد حزوم) على يد الأب البديل أو الأب الثاني بعد اختفاء الأب الحقيقي (صالح حزوم) كما تشكّل الفتى الذي كانه حنا مينه في اسكندرونة في رواية (المستنقع) على يد (عبده حسني) الذي يقدم لفتاه الكراريس الثورية، وكذلك كان للنقابي (فايز الشعلة) دوره، وللشيوعي (اسبيرو) و(الأعور) دوره. وهذا الدور سيتجدد في رواية (الثلج يأتي من النافذة) وقد غدا الفتى شاباً وتسمّى المعلّم بخليل، بينما تسمّى الشاب بفياض الذي تلاحقه المخابرات في الإقليم الشمالي (سورية) من الجمهورية العربية المتحدة، كما لاحقت الشيوعيين في هذا الإقليم وفي الإقليم الجنوبي (مصر).

* * *

بالطبع، ليس ما تقدم ببرازخ العالم الروائي لحنا مينه جميعاً، وإن كنت أزعم أنها الأهم، أو أن فيها ما هو أكبر أهمية. وعلى أية حال، فلعل هذه المحاولة لترسيم تلك البرازخ، تحرّض على أن نحتفل هذه السنة بمرور ستين سنة على صدور (المصابيح الزرق)، وذلك بالدرس وحده، على الرغم من كل ما حظيت به روايات حنا مينه من درس، وهو كثير وثمين.

 

 المصدر: السفير 

آخر تعديل على السبت, 08 شباط/فبراير 2014 22:52