الفلسفة أيضاً تقول كلمتها لصالح «القطع التاريخي»
محمد المعوش محمد المعوش

الفلسفة أيضاً تقول كلمتها لصالح «القطع التاريخي»

يمكن أن تنقسم الآراء في العالم اليوم حول طبيعة المرحلة التاريخية الراهنة لدى اليمين واليسار على السواء إلى رؤيتين إجمالاً، واحدة تقول: أن التاريخ لا يشهد مرحلة نوعية، أي: أن الأزمة الرأسمالية الراهنة لا تحمل احتمال كونها آخر أزماتها، بل هي أزمة دورية ستتخطاها الرأسمالية، أي: ستعود لسيطرتها العالمية كما السابق، فتخطي الأزمة يعني الانطلاق من آخر موقع للرأسمالية قبل الأزمة وهو السيطرة العالمية. وهذا الرأي «الاستمراري» الذي لا يقول بالقطع نراه في اليمين كما نراه في اليسار. أما الرؤية الثانية فتقول: أن المرحلة التاريخية الراهنة على أساس الأزمة العميقة والشاملة للرأسمالية تمثل مرحلة نوعية «انقطاعية” في التاريخ، وتحمل احتمال وضع مهمة تخطي الرأسمالية على جدول أعمال البشرية، نحو الانتقال للإشتراكية.

وفي صراع الرؤيتين يكمن تفسير مجمل المواقف من القضايا المختلفة، وبالطبع البرنامج المتلائم في مواجهة الأزمة، فالرؤية «الاستمرارية» مثلاً، من جهة اليمين لا تعترف بضرورة تخطي الرأسمالية، أما من جهة اليسار فلا تزال تقدم طروحات أقل طموحاً، وهي تقتصر على الدفاع والإصلاح في الواقع الراهن.
لا مكان آخر للمناورة مجدداً
إذا أردنا أن نكون في صالح الرؤية الثانية «الانقطاعية»، ونحن في صالحها، والتي من جهة تدعمها مئات المواد العلمية التحليلية من جهة الأزمة البيئية ووصل الرأسمالية إلى مداها الاستغلالي عمقاً واتساعاً، ومن جهة ثانية، إذا أردنا ألّا نقدّم مقولات دعائية بل نقاشاً تدعمه الوقائع الملموسة في كليتها، فسنقوم بتكثيف العديد من المواد التي تم تقديمها سابقاً حول مسألة واحدة محددة: أن الاستغلال الرأسمالي بعد أن كان في القسم الأول من القرن الماضي استغلالا مادياً مباشراً بالحديد والنار، وبعد تحوله إلى استغلال مادي- معنوي تحت ضغط القوى الشعبية الثائرة منذ بدايات القرن الماضي، أي: أن السماح بهامش لبروز حاجات معنوية كانت الليبرالية تحاول إشباعها بأشكال وهمية تثبّت العلاقات الاستغلالية التهميشية، وصل هذا الشكل الاستغلالي المادي- المعنوي إلى حدوده التاريخية. وهو ما تمثله آلاف المواد حول المرض العقلي والنفسي- جسدي من جهة، والذي يطبع المجتمع البشري في المرحلة التاريخية من سيادة الليبرالية.
فهروب الرأسمالية إلى الأمام بتنازلها التاريخي من الجانب المادي المباشر إلى الجانب المعنوي الأكثر “نعومة”، استنفدت هامش مناورتها على صعيد البنية الفردية للإنسان. فانفجار نقمة استغلال الجسد في النصف الأول من القرن الماضي، يتبعه الآن انفجار النقمة المعنوية- الجسدية بعد التوسع الاستغلالي المعنوي، أي: النفسي- العقلي- الجسدي. وهكذا تصل حلقة الاستلاب والتهميش إلى حدودها التاريخية على الصعيد الفردي، كما هو حاصل في استغلال ودمار الطبيعة، وكذلك في التوسع الرأسمالي على الكرة الأرضية وشعوبها ككل.
ومع انعدام مستويات أخرى للمناورة على المستوى الفردي فإن التدمير أصبح هو المصير المحتوم للإنسان، الموت المادي والمعنوي، أمراضٌ جسدية ومعنوية.
مقولات الفلسفة في صالح «الانقطاع»
إذا كان النقاش أعلاه قد تم التعبير عنه في عدة مواد سابقة، فإن تعميمها الفلسفي يمكن أن يُعطي للتحليل اكتماله التجريبي العلمي الفلسفي.
حيث إن انسداد أفق المناورة التاريخية للرأسمالية في الميدان الفردي يحقق مقولات التّغريب، التي قالت بها الماركسية، بشكلها الناضج عملياً وليس فقط كمقولات نظرية. وهي حققتها كاغتراب الإنسان عن عمله، والمأساة التي أصبح يشكلها العمل المأجور وطابعه، وحققتها أيضاً كاغتراب الإنسان عن نفسه، فالإنسان يعيش انقساماً بين وعيه المفكر الذي يتشكل من خلال أدوات الفكر الليبرالي ومفاهيمه ومعانيه عن الحياة وعن نفسه، وبين حاجاته ومعاناته المعنوية التي تتطور داخله والتي لا يقدر القسم المفكِّر الليبرالي- الأرضية- أن يربطها بالواقع والنظام المعاش، ولهذا يعيش الإنسان اليوم مأساة عدم فهمه لنفسه وبعده عنها. وحققتها أيضاً في اغتراب الإنسان عن الإنسان الآخر، فالتهميش الفردي والجماعي فرغ العلاقات من أي رابط حقيقي عدا العلاقات السلعية، أفقد الصلات الإنسانية، أيَّ مشترك ضروري يشد البشر إلى بعضهم البعض، وهو ما حول الحياة إلى وحدة حقيقية، مهما كثرت علاقات الإنسان كميّاً.
الذات المفكرة تلتحم بالجسد المستغل
أما الأهم في كل ذلك، أن العقود الماضية حققت عملياً التحام الفكر بالواقع في شكله الجماعي، وليس فقط في عقل بعض المفكرين الفرديين. حيث من المعروف تلك المقولة التي أعلنت: أنه عِبر الماركسية التقى الفكر مع حركة الطبقة العاملة، وبالتالي، أصبح للفكر قوته الحية ولم يعد منفصلاً عن الواقع في عقول الطبقة «المفكرة» التي كانت غالباً من الطبقات غير المستغلة، نتيجة التقسيم الطبقي للعمل، حيث إن العمل الجسدي تقوم به القوى المستَغَلة، أمّا العمل الذهني فتقوم به فئات محددة «محظية»، غالباً مفكرو البلاط.
هذا الانفصال سابقاً جعل من الذات وحاجاتها المعنوية تسعى للتحقق بالشكل المثالي التأملي تمثله ذلك الفلسفة المثالية ومقولات علومها، أمّا عندما أطلت الذات من خلال جسد الطبقة العاملة ذهنياً وجسدياً، الطبقة التي لا تملك رفاهية التأمل ووهم الإرضاء في ظروف تهميشها الرأسمالية، صار لزاماً على الذات- التي طالما تأملت عبر التاريخ البشري- أن تسير في طريق البحث العملي عن إشباع حاجاتها.
هذا الالتقاء التاريخي بين الذات المفكرة والجسد المُستَغلّ يمثل شيئاً جديداً في التاريخ البشري ككل، ويظهر وعلى طول الخط أنّ حلّاً عمليا «انقطاعياً» لأزمة الذات أصبح محطة تاريخية أمام البشرية، هو القطع مع الرأسمالية، لكي ينحل التناقض الذي تعيشه الذات في موقعها المهش الراهن، مهما حاول فلاسفة المرحلة التشويش، فالفلسفة العلمية هي أيضاً مع القطع، فيُردّ الإنسان إلى ذاته كما عبر ماركس.