جديد الغد.. قديم اليوم
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

جديد الغد.. قديم اليوم

في كل مرحلة انتقالية، بين مرحلة تاريخية وأخرى، تتعدد المقاربات، وتتباين الآراء حول العلاقة بين القديم والجديد، وذلك في مختلف حقول النشاط الإنساني، ومنها: المنتج الثقافي بمختلف مجالاته.

أثار الناقد أحمد أبو الخضر المنسّى في كتابه (الموسيقى الشرقية بين القديم والحديث) الصادر عن دار الطباعة المصرية الحديثة عام 1949 قضيةً لا تزال تشغل حيزاً هاماً في الجدل والنقاش الدائر حول القديم والجديد في مجالات النشاط الاجتماعي، خصوصاً الأدب والفن. وباستثناء الفصل السابع الذي يعرض فيه تعريفاً موجزاً وممتعاً عن الموسيقى الشرقية بشكلٍ موجز وممتع، فإن فصوله الستة الأخرى وخاتمته تمتلئ بالنقد اللاذع لجديد الموسيقى في حينه، ورموز تجديدها وخاصةً الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب (وشيعته كما يصفهم) ليصفهم بالإلحاد الفني، وإن طال النقد بشكلٍ أخف كلاً من أم كلثوم والقصبجي. فما علاقة جديدنا بقديمنا؟ وهل كل منهما منعزل عن الآخر؟
يقول المفكر الشهيد حسين مروة: «الأدب والفن وكل أداة تعبيرية، إنما هي كائنات حية مرتبطة بهذا الكائن الحي، الإنسان. فكيف يمكن أن يتطور الإنسان ويتجدد، وتبقى أدواته التعبيرية جامدةً راكدة؟».
ينبغي أولاً عدم النظر إلى الأدب والفن عموماً، بشكلٍ منعزلٍ عن الظروف الكبرى والتحولات العظيمة التي كانت تفعل فعلها في العالم بأسره، مع البذور الأولى للنزعات التحررية في منطقتنا خلال القرنين الأخيرين من الاحتلال العثماني، مروراً بالتحولات الكبرى في أوروبا نحو الرأسمالية الصناعية، وحاجتها للتوسع والاستعمار، وانتهاءً بدعم حركات التحرر العالمية من الاتحاد السوفيتي بعد ثورة اكتوبر.
إذاً، إن التغيرات الحاصلة في المشهد السياسي في حينه، والتي توِّجت أخيراً بالاستقلال، كان لابد أن تنعكس عميقاً في البعد الاجتماعي، ومن هنا تأتي دعوتنا إلى عدم عزل الأدب والفن عن مشهد تلك الحقبة؛ فقضية التطور فيهما هي مسألة موضوعية مستقلة عن إرادة الناس ووعيهم بذلك. رغم أن وعيهم بتلك الفكرة يؤسس للدفع بعيداً بتطور هذه المجالات.
كما أن المسألة ليست مجرد علاقة الأدب والفن بأوضاع المجتمع في نقطةٍ زمنيةٍ محددةٍ من زمنٍ مستمر؛ وإنما هي مسألة أدبٍ وفنٍ يتطوران بتطور الحياة ذاتها في كل عصرٍ من العصور، ومع هذا التطور تنشأ بذور فنونٍ وآدابٍ (تلائم الذوق الحضاري الذي تنميه الحضارة في تلك الحقبة).
وعليه، ينبغي التعامل مع مسألة تطور الأدب والفن، بل حتى نشوء آداب وفنون أخرى، حسب منطق التاريخ؛ فهما من حيث أنهما علاقات وجدانية وفكرية، لا يتطوران بشكلٍ يتناسب في سرعته مع التطور الحاصل سياسياً مثلاً، وانطباعات هذا التطور في المجتمعات؛ إذ لابد من رسوخ هذه التحولات عميقاً في المجتمع لتصبح جزءاً أساسياً منه ومن وجدانه وتفكيره، لتجد بعد ذلك طريقها إلى مجالات الإبداع الأدبية والفنية التي تتمثل فيها المفاهيم الجديدة للمجتمع.
كما أنه، وعند الحديث عن حساسية الأدب والفن للحياة وعلاقتهما الوثيقة بها، فإننا نعني أنهما لا يحتاجان إلى القصد؛ فرغم أنه قد يعود الفضل لأديبٍ ما أو فنانٍ ما (كالموسيقار عبد الوهاب) باتخاذه الصيغة الأدبية أو الموسيقية ومنحها طابعاً له هويته، فإن بذور تلك الصيغ كانت تنتش في مجتمعه، غير أنه من بعث بها الروح بأدواتٍ هي أدوات عصره بأكمله.
إذ إن أحد منعكسات التحرر السياسي في تلك الحقبة، قد عَنَتْ كذلك تحرر وجهة الأديب والفنان من القوالب السائدة، فقد أيقظ المد التحرري لدى تلك الفئة نزعتهم التحررية النوعية، وهو ما يعني ضمناً موقفاً اجتماعياً، من حيث أن هذه الميادين تمثل حقولاً خصبةً للنشاط الاجتماعي.
مما ذكر، يمكننا الاستخلاص: أن تطور الآداب والفنون شأنه شأن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يحصل بشكلٍ مستمرٍ متشابك دون حدودٍ فاصلة، وضمن هذا الشكل من التطور، يحدث الصراع بين الجديد والقديم في الأدب والفن كذلك؛ إذ من البدهي ألّا يندرج تحت هذا المعنى التجديدي جميع العاملين في حقول الأدب والفن، خصوصاً مع ظهور البوادر لحصول التغيرات الجدية فيها كامتداد طبيعي للتغيرات السياسية والاجتماعية، فهي أيضاً أمكنة (للتنفيس والتمكين) للمواقع الأيديولوجية. على أن الجديد يفرض نفسه في النهاية بقوة التاريخ وصيرورة حركته، وبيئتنا وموسيقاها المؤلفة من نحو ألف مقام، تمتلك القدرة إعادة خلق نفسها وقوالبها، وكذلك الدفاع عن نفسها ضد العزلة.
من المهم أخيراً، أن نشير إلى ضرورة التمييز بين واقع الحال في تلك الفترة الزمنية التي عرضنا لها، وواقع الحال في يومنا هذا، ونحن نعيش نتائج استتباب الأمر للرأسماليات المحلية التابعة، من تفسخٍ للبنى الاجتماعية والأخلاقية والثقافية، والمآل الذي آل إليه واقعنا الأدبي والفني، من حيث استتباعه للقيم الأدبية والفنية في المركز الإمبريالي، الذي يعاني بدوره تفسخاً بلغ ذراه في بناه التحتية الاجتماعية المذكورة، على أننا نشهد بوادر استعادة هذه البنى من القوى الحية في المجتمعات وإعادة بنائها من (جديد).