كاميرا الدهشة تكتشف مريد البرغوثي قراءة في فيلم : «المكان ليس هنا» للمخرج الفلسطيني عائد نبعة

قطرة ماء واحدة تحمل في رحمها كل كيمياء البحر، ولكن كم نشيد تتكسر ناياته لتصبح هذه الرؤية مفتتح القهوة في صباحات المدينة المشهرة جفافها والتي أطلقت كل إسفنجها الرمادي لتغتال عذارى الماء.

وهكذا كان على المخرج عائد نبعة أن يصنع من المقابلة -  بآفاقها المحدودة زمانا ومكانا- فيلما سينمائيا يتفجر فيه جموح الكاميرا عابرا أقانيم الشاعر الفلسطيني «مريد البرغوثي» ذات التضاريس المشتبكة والذي يقيم فيزيائيا خارج المكان، وإبداعيا يرفرف عاليا فوق تخوم  سماء الرؤية، ولا يجد غير بساط الزمن قمرا يربي في حناياه نباتات الظل والنور، أو مخطوطات الكشف أو أثاث القلب، إنه يقيم خارج عقلانية المشهد، خارج طقوس الحزن.
وعلى المخرج أن يؤلف بين قصائد مريد التي تتحدث عن عدن لا تطالها الكاميرا مقابل مدن تعربد سدوميتها في كل ركن، ما بين كل حرفين، وبعد وقبل كل نقطة وفاصلة،وهكذا دون سابق احتكاك قد تحشو الشارع في حقيبته وترسله طابع تشرد لمنفى جديد.
إن الملح الذي سيضيء به المخرج عدسة كاميراته هو ماس الكلام،فالفيلم عليه بعلبة رمل واحدة تَساقط من كم الزمن أن يتلمس ما تلاه مريد البرغوثي عبر مسيرة شائكة عجزت عن ألوانها شقوق الصحف ورفضتها قضبان كل السدنة ولم ينظر لها إلا غزلان الإبداع المريضة بمسكها ومراعيها الراكضة، وعليه أن يعدد كل حالات الغياب الخارجة عن كل أزاميل التشكل، فهي قائمة فقط في أخاديد الذاكرة ولا يموجها إلا رنين الكلام.
وينطلق الفيلم كبراق يتذكر مسالك درب التبانة وقد ضل خطاه في دروب السماء، فتلمح أولادا يؤثثون الرؤيا بحركة دائبة، يتسلقون وعورة الأرض مطلقين لعدسة الكاميرا أن تستحم بشفاعة الخضرة وانصباب الخطى، وعبر مشهد آخر تلمح مريدا يمتد في شساعة الشارع، معلنا جبريات حياته دون أن يقول أي شيء، فأصدقاؤه يتلمسون عناد الخطى في مروره المثقل بالوجع والحكمة والذين ربما ذات رحيل قد يغادرهم قبل أن يكمل نعناع الفجر فجوره في فنجان شاي، ويدخل هكذا_دون سابق إنذار_رجل يملأ عدسة الكاميرا، ورغم عدم تعالقه بالفيلم إلا انه يستمر بيقين دكتاتور مجبرا الذاكرة أن تستدعي كم مرة دخلوا غرفة نوم الحروف وفطموا نقطة الباء عن أمها السفينة، وكم مرة أجبر المكان المنزلق خطى مريد أن تأخذ قالبا جديدا.

ولم يترك المقابلات داخل الفيلم أسيرة رمادتها الحركية، بل وظفها حتى آخر النزف والبوح، فها هي الكاميرا تلتقط حركة «رمي الميكروفون» بعيدا، معلنا حكمته وفوضاه، فلا شيء قادم من خارج أمومة الذات يستحق أن يتعربش قلبي، وكل الأجهزة عاجزة أن تتمثل إطلالتي من فوق أعالي الكلام، ولا قيد حتى وإن نسجته خيوط  قوس قزح أطيق له ظلا.
وتكشف الكاميرا علاقة الحموضة بين الشاعر والأمكنة، ربما ارتاحت موريات الشاعر في نزق هذه الشرفة، ولكن طقوس الوداع الاضطراري تسكن غرف الحقيبة، وقد تعلن أجراسها المضرجة بدماء الاقتلاع، فمريد يدير ظهره للكاميرا مستعرضا مشهد المدينة الجميلة كخوخة مزة،لا يريد أن نطل عليه متلبسا بالمدن المؤقتة،وحين يدير وجهه للكاميرا تستعرض الكاميرا المدينة مسرعة مخافة أن تتحول إلى تمثال من الصوان تضربه الريح وتنفلت عن مفاصله أجنحة نباتات الظل.

ورافقت المشاهد موسيقى تصويرية أذنت للشاعر أن يموسق كل الفراغات بقراءاته وبحديثه عن تلوث اللغة وعن اشتباك علاقته بالمكان وعن إقامته في مدن الزمن،وعن الطفولة الغائبة ومتواليات الغياب من غياب النقد إلى غيابات الديمقراطية، من حضور الفاجعة حتى عربدة المزيف الموشى بالخواء وتقشير الجوهري.
نعم استطاعت الموسيقى أن تجعلنا نشكل ما استحضرته الكاميرا بجدلية غياب الصورة لصالح حضور نقيضها وجعلت قراءات مريد تتبرج بصريا وصوتيا وحفرا في شرفات الذاكرة.
وفي ارتطام السرد بسد النهاية، يسطو مريد على مساحة المشهد رويدا رويدا،فيملاها جسده ومن ثمة وجهه وأخرا صدره  لتطفح الصورة بظلاله إلى أن تكتمل العتمة وتعلن النهاية انتظاراً  لبوح ما.
يستحق مريد فيلما وفيلمين وأكثر، فهذا الفيض الذي عبر عن المعتم والمضيء في صرر ذواتنا، وهذا الإشراق الذي رأى رام الله يشكل حالة متفردة في الأدب العربي الحديث، لكن سؤال الطفل الذي أسر به للكاميرا بالجمر والنهر، ما زال  سوار اللعنة، فالتسعة عشر حزبا التي لم تأتلف حتى على هدفها الواحد، نظََرت لشاتها العرجاء وحاولت نفي جواد الكلمة إلى وعورة السكون، ولكن هيهات أن تدجن البحر أشباح السواقي والسبخات.
إن من يحرك السكون، ويفجر الغياب ليجعله حركة، ويشد المقابلات بخيوط الحبكة السينمائية، وتجليات الصورة، ويوظف الصمت والصوت واللون، ويجدل المشاهد المتقطعة، لتأخذ شكل فيلم سينمائي وثائقي عبر رؤيا جديدة للتعامل مع الأفلام الوثائقية، تخرجها عن قيود الرتابة، ولا تبعدها قيد شعرة عن صدقها وواقعياتها لقادر على أن يقدم عمقا مغايرا للمشهد السينمائي العربي، إن لم يترك وحيدا ككاهن الصمت، تذوَب رؤاه لصالح السائد والسطحي والمفرغ من المهنية والمعنى ومن رؤى سينمائية تركز على الرخيص ولا تحكمه إلا قوانين التلوث واصطياد الأرباح ولو عبر الانحياز لمحق الهوية الإبداعية والإنسانية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
283