«العراق هوامش من التاريخ... والمقاومة»

قبيل رحيل الكاتب والروائي عبد الرحمن منيف، صدر كتاب جديد له بعنوان: «العراق هوامش من التاريخ... والمقاومة»  وهي الطبعة الأولى من كتاب العراق 2003.

لقد استطاع الأديب الراحل في كتابه أن يقرأ الحاضر برؤية مستلهمة من التاريخ المعاصر للعراق، ليرسم لنا صورة متكاملة لهذا البلد في مواجهة غزاته الطامعين.. 

واليوم يُنهب العراق ويستباح كاملاً في ظل محتل أمريكي لا يعرف غير القسوة والنهب والكذب تحت حجج أكثر نفاقاً وهي الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأصبح العراق البلد الثاني المحتل بعد اغتصاب فلسطين ولا فرق هنا بين الاحتلالين.

في بداية كتابه وكمدخل يقول «لماذا هذا الكتاب الآن؟ يجب الاستفادة من الدروس السابقة كي لا تتكرر الأخطاء ولتجنب دفع ثمن سبق أن تم دفعه باعتبار أن من سمات العقود الأخيرة على مستوى العالم إعادة خلط الأوراق، تمهيداً لكتابة تاريخ من نمط جديد وهو تاريخ المنتصر، وبالتالي تغييب وقائع واستحضار غيرها أو بديل عنها كان لابد من الوقوف في وجه الدخيل المزور في هذه الموجة الجديدة ورد الاعتبار للقيم والمفاهيم التي شكلت المقياس لمراحل سابقة، فالوطنية مثلا ليست قيمة  قديمة بالية يجب الاستغناء عنها والدفاع عن كرامة الشعب وحريته ليس موقفا شوفينياً يجب تجاوزه، والحرص على الأوطان والتضحية من أجلها جزء من السيادة والدفاع عن النفس لكي يتم تسليم الأمانة للأجيال القادمة ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن الكثير من القيم التي تشكل الملامح الحقيقية لأي شعب».

طوال الأعوام الماضية وأمريكا تحشد وتعبىء العالم ضد العراق بحجة نزع أسلحة الدمار الشامل وإقامة الديمقراطية المزعومة مستخدمةً في ذلك جميع الوسائل من مجلس الأمن والأمم المتحدة وأمينها العام والدول الغربية والعديد من الدول العربية لاسيما الخليجية لخلق المناخ المناسب لشن الحرب وسياسة الحصار والحظر وحشد عملائها في الداخل والخارج لصنع وقائع حول ما يمتلكه العراق من أسلحة ذرية وكيماوية ووضعت إعلامها وإعلام أصدقائها لتمرير هذه السياسة الرعناء والوحشية تجاه العراق وشعبه وقدمت الهدايا السخية لاصطناع معارضة وهمية وتدريب عناصر للقيام بدور الشرطة والمحرضين والمترجمين والجواسيس وهذه المعارضة التي كانت تجتمع في أوروبا بفنادق خمس نجوم تعتبر من أوقح أنواع المعارضة في العالم فهي لا تتعدى الدكاكين لبيع الأوهام والكذب وكانوا يقدمون التقارير والمعلومات لمن يريد تدمير العراق.

ورغم المعارضة العالمية وخروج عشرات الملايين بتظاهرات معادية لأمريكا إلا أنها استمرت في مخططها المدروس وبذلك أصبحت الحضارة البشرية أمام مفترق طرق.

ويقول الكاتب «إن العالم كله على مفترق طرق الآن فإما أن تتضامن الدول للحد من غلو السياسة الأمريكية وترشيد مواقفها المنفلتة من كل عقال ووضع حد لطموحاتها غير المحدودة وإما أن تنفرد أمريكا أكثر مما نشهد في قيادة العالم نحو الجنون وربما الانتحار».

وما جرى للعراق ومدنه هو عدوان سافر وليس حربا بين طرفين، بغداد احترقت ومعها باقي المدن العراقية دون مقاومة تذكر وبعد هذا التدمير الشامل جاء المعارضون الأشاوس على ظهور الدبابات الأمريكية كي يحكموا العراق المحترق، ولأنهم ليسوا موضع ثقة بعد أن تربوا في أجهزة المخابرات الغربية لم يقبل بهم الشعب ولا حتى أمريكا نفسها ووضعت قبضتها على كل شيء، فهوْلاء بلا جذور ومثلما نسوا الوطن نسيهم الوطن، فهو ليس الذي ينتظر كي يوضع في البراد كما وضعت أفغانستان من قبله، واكتشف العراقيون زيف الشعارات الديمقراطية إذ أن الدماء العراقية التي تسيل يوميا كافية لإدراك حقيقة الوجود الأمريكي. ومن استطاع في السابق الانتصار على الإنكليز ومكرهم ودهائهم قادر اليوم على منازلة الأمريكيين ودحرهم، والمواجهات الصغيرة التي أبداها العراقيون المقاومون ومنذ بداية الاحتلال هي البشائر لما هو قادم.

إن درس العراق يعني المنطقة كلها والانطلاق هو من العراق للسيطرة على مناطق جديدة في العالم ولاشيء سوى المقاومة التي باستطاعتها وقف هذا المد البربري الذي لا يستهدف تغيير لون الخرائط فقط بل يستهدف أيضاً تغيير لون العالم كله.

ويتوقف الكاتب عند محطات مهمة من تاريخ العراق ويبدأ من ثورة العشرين:

عندما قامت بريطانيا باحتلال العراق 1917 قابله الثوار ومنذ البداية بالدم والنار وهذه الثورة كانت الثورة العربية الأولى في المشرق العربي ضد الاحتلال واتسمت بالشمول وعمت جميع المدن العراقية وارتقت فوق الانقسامات الطائفية والمذهبية وكانت ثورة وطنية شاملة عمت العراق بأسره.

الشيخ ضاري المحمود

والكولونيل لجمان

وهو من رجالات ثورة العشرين ولجمان الذي زار كل مدن العراق وقدم تقاريره لحكومة الاحتلال كان يتربص بتحركات الشيخ من مكان إلى أخر وفي «خان النقطة» شتم لجمان الشيخ ضاري وأهانه واستدعى الشيخ رجاله وقتله وأكمل عليه الشيخ بسيفه وهرب إلى الجزيرة السورية وبعد عودته إلى بغداد وتسليمه لقوات الاحتلال تمت محاكمته وحكم عليه بالإعدام ومات في الفجر قبل تنفيذ الحكم وهكذا انقضت حياة ابرز ثوار العراق 1928 وكانت جنازته يوما مشهودا في تاريخ العراق الحديث، والآلاف المشيعون كبارا وصغارا بكوا هذا الرجل وهكذا انتهت إحدى الصفحات المضيئة من تاريخ العراق وهناك مثلها الكثير وخاصة بعد الدم الغزير الذي نزف في الفلوجة أثناء مقاومة المحتلين الجدد وقالت لهم الضحايا بالفم الملآن إن دماء ضاري لازالت تسير في عروق العراقيين والشعب الذي هزم المحتلين الإنكليز هو نفسه الذي سيهزم المحتلين الجدد من الأمريكيين وما أشبه الليلة بالبارحة.

مس ببل «الخاتون» المرآة التي أنشأت دولة ونصبت ملكا

كانت تجوب مدن العراق طولا وعرضا وهي السيدة التي أتت إلى المنطقة بحثا عن الآثار أصبحت تصنع الملوك وتختار الوزراء وأصبح الجميع يتقرب منها ويريد ودها ولم يكن المندوب السامي أكثر منها أهمية بيرسي كوكس الذي لم يكن ارحم من بريمر الأمريكي وبقراءة متأنية لهذه الشخصية «مس بيل» يمكن استعادة مرحلة تاريخية كاملة وسيدرك المرء بوضوح كيف تنشأ الدول وكيف تقام الممالك وكيف ينصب الملوك.. وأخيرا كيف يعزلون.

فيصل الأول وسياسة «خذ وطالب»

التأسيس الأول للدولة العراقية كان على يد الإنكليز و«المس بيل» منذ اثنين وثمانين عاما وها هو العراق يشهد تأسيسه الثاني على يد الأمريكيين وبداية على يد الحاكم «جي غارنر» وبعد فشله عينت حكومة الاحتلال «بريمر» بدلا عنه والمفاوضات التي كانت تجري في السابق بين طرفين حكومة الاحتلال من جهة وبين فيصل ورجالاته من جهة أخرى، أما اليوم فالأمريكيين يفاوضون أمريكيين آخرين أو دمى خزفية صنعتها هي بنفسها يقول الكاتب «أما الدمى الخزفية التي حشيت بالقش، وجيْ بها من أمريكا بعد الإعداد والتدريب لتكون وجه العراق الجديد وحاملة لواء الديمقراطية فإنها تبدو عاجزة وفقيرة وهذه الدمى الفارغة ستتحول يوما ما إلى فتات دون أن تصدر أي رنين».

مشكلة الموصل الواقع والمؤامرات

الصراع على نفط الموصل ظل الشغل الشاغل لجميع القوى الاستعمارية خلال أكثر من قرن من الزمن والدول لم تخف مطامعها لاسيما تركيا، وهذا ما توضح جليا في الحرب الأمريكية الأخيرة والصراع الدامي بين الأقليات على هذا الجزء الهام من العراق ينذر بعواقب وخيمة.

اغتيال الملك غازي الملقب بالزعطوط

الطفل الذي لا يملك أي خبرة في إدارة البلاد أصبح ألعوبة بيد العسكر أمثال نوري السعيد وجعفر العسكري والهاشمي والمدفعي وغيرهم ومن ثم تحكم نوري السعيد بكل شيء وتحول غازي إلى واجهة يحكم من خلالها نوري السعيد وأعوانه وفرضت على العراق اتفاقيات مجحفة وفضحت انحياز هؤلاء المكشوف للحركة الصهيونية وتمكن الإنكليز من قتل الملك غازي عبر أعوانهم وأصابع الاتهام تشير مباشرة إلى نوري السعيد وزوجة الملك عالية وأخيها عبد الإله الذي أصبح فيما بعد وصيا على العرش وهكذا دخل العراق في طور جديد من القتل والانتقام ومازال مستمرا حتى يومنا هذا.

ياسين الهاشمي: الشهاب الذي هوى

كانت نزاهته كافية كي يلتف العراقيون حوله لذلك قام بكر صدقي بالانقلاب عليه فغادر البلاد مجبرا وتوفي في بيروت وبوفاته خسر العراق أبرز قادته ودفن في دمشق إلى جانب صلاح الدين تقديرا واحتراما وأقيمت له جنازة لم تشهد لها دمشق مثيلا وبوفاته هوى الشهاب الذي أضاء سماء العراق «وبهذا انطوت صفحة أخرى من تاريخ العراق والمنطقة لكن ما يزال أريجها يملأ المنطقة العربية على اتساعها.»

سندرسن باشا أكثر من  طبيب

لقب بالباشا تقديرا لخدماته للأسرة الهاشمية وبقي 25عاما في العراق وعمل مثل الكثيرين الذين دخلوا العراق على شكل هيئات متعددة لكن أس عملهم هو التجسس على البلد وتخريبه.

عبد الإله الوصي على عرش العراق

كان شخصاً أقرب للتخنث ولم يكن على علاقة طيبة مع ابن عمه غازي وظل على صراع مع رجل الإنكليز الأول نوري سعيد وكانت محاولاته دائمة للاستحواذ على الجيش ولقي حظوة من الإنكليز.

حركة رشيد عالي الكيلاني

نحّت الوصي على العرش وقام الكيلاني بتشكيل وزارة جديدة وألغى المعاهدة الموقعة بين العراق والإنكليز فكان رد الفعل الجماهيري هو دعم منقطع النظير ومن كافة فئات الشعب العراقي وهنا عملت بريطانيا بكل قوتها لإنهاء حركة الكيلاني وساعدها في ذلك حرس الحدود الأردنية وبدعم من الأمير عبد الله الذي كان يطمح بأن يصبح ملكا على كل من سورية والأردن والعراق وسقطت الحركة وعاد الوصي وبطانته على الدبابات الإنكليزية إلى الحكم وهكذا انتهت حركة أحد أبرز زعماء الثورات في الوطن العربي خلال القرن العشرين.

وثبة الخير يوم الجسر

«إن يوم الجسر يوم مشهود في تاريخ العراق الحديث ولا تزال الجماهير حتى التي لم تحضر ذلك اليوم تستعيده بكثير من الكبرياء والعنفوان، ويشير إلى مدى قوة الجماهير خاصة حين تمتلك إرادتها وتصمم على مقاومة الغزاة والمحتلين وأذنابهم «وفي قصيدة رثاء لمحمد مهدي الجواهري مجد فيها الشهداء وأشاد بتضحياتهم ومعلوم بأن أخاه جعفر كان أحد الشهداء الذين سقطوا على جسر المأمون في مواجهة الشرطة ورصاصهم الغادر ومما قاله الجواهري في تلك القصيدة:

أتعلم أم أنت لا تعلم                            بأن جراح الضحايا فم

اللصوص«يحرسون» الكنوز

ما جرى لمتحف تكريت والناصرية دون ردود فعل جدية من العرب والهيئات الدولية شجع على الحفلة الكبرى في متحف بغداد والموصل وكان الأمر كله مدبرا كي تقوم قوات الاحتلال الغازية بنهبها المنظم مستعملة حثالة من الرعاع والمجرمين المجهزين للقيام بهذا الدور القذر, إن سرقة وتحطيم ونهب ما يزيد على مائة وسبعين ألف قطعة أثرية وإشعال النيران بالمكتبة الوطنية ومركز الوثائق والدوائر الحكومية جرى أمام أعين ومساعدة وحماية القوات الأمريكية، وإسرائيل الصهيونية ليست بريئة أبدا مما جرى. «إن من يفتقر إلى التاريخ يحاول إن يخترع لنفسه تاريخا ملفقا» ولذلك يعمل الصهاينة ليل نهار ليجدوا حجرا ليثبتوا بأنهم مروا من هنا فكيف نسكت ونحن الورثة الحقيقيون لكل هذه الكنوز وهذا التراث الإنساني الرفيع.

وما الفرق بين جماعة طالبان وتحطيمهم لتماثيل بوذا وجماعة الأمريكان وتحطيمهم لمتحف بغداد وسرقته ؟كلاهما وجهان لعملة واحدة رديئة وهي الإرهاب.

«ما حصل في العراق من قبل الإمبراطورية الأمريكية سُبة في جبين هذه الدولة إلى يوم القيامة حتى استراليا لا تنجو من هذه أللعنة وأيضا تلك الدول المتحمسة للمشاركة في تلويث أيديها بدماء العراقيين....»

إنقاذ علماء العراق

بعد أن دمرت إسرائيل المفاعل الذري العراقي 1981 لجأت إلى التخلص من العلماء العراقيين أو العرب الذين يعملون في العراق بالملاحقة والاغتيالات والتصفية في جميع أنحاء العالم، وحين عجزت إسرائيل عن الوصول إلى العلماء أقنعت الأمريكيين بأن هؤلاء أخطر من أسلحة الدمار الشامل نفسها وبدأ التضييق عليهم عبر فرق التفتيش التي أصبح من حقها التحقيق معهم على انفراد وترحيلهم مع عائلاتهم إلى خارج العراق للتحقيق وذلك بتغطية من مجلس الأمن وباتفاق إسرائيلي أمريكي مشترك ورفض العلماء لهذا الطلب والخروج من العراق خوفا من تصفيات جسدية تطالهم وحياة عائلاتهم منع من تحقيق المطلب الأمريكي. وبعد الاحتلال الأمريكي جرت القوات الأمريكية تبحث عنهم وبعضهم سلم نفسه تجنبا لما هو أسوأ وبالتأكيد ستسعى القوات المحتلة ومرتزقتها للنيل من هؤلاء العلماء عبر تهديدهم وتخويفهم ومضايقتهم وسد جميع أبواب الرزق أمامهم تمهيدا لترويضهم ثم حملهم على تغيير مواقفهم.

■ إبراهيم نمر

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.