أوراق خريفية «حتى في الصحراء..؟!»

وأخيراً حسم تردده نهائياً وقرر تنفيذ مشروعه في منطقة قصية من هذه الأرض. حيث لا أنس ولا جن..!

في مطلع كل يوم، وقبل قيامه بأي طقس من طقوس الصباح كان يهرع إلى الرزنامة، وينزع منها ورقة البارحة، ويفرك راحتيه مسروراً لاقتراب أول الشهر. 

عندما استلم راتبه من المحاسب، أخبر زوجته بما عزم عليه.. قالت له: «فعلاً إنك مجنون ولا يوجد برأسك ذرة عقل!» لم يأبه لتوبيخها.. معتبراً أنها هي التي بلا عقل..

استعار من جاره الضابط منظارا ًمقرباً ومطرة، وذهب إلى مكتب تأجير السيارات واختار سيارة جبلية من نوع «رانجروفر» وانطلق بها باتجاه البادية..

ماهي إلا ساعات قليلة حتى وصل إلى مشارف الصحراء.. زاد من سرعته متوغلاً، مشكلاً سحابة من الغبار والرمال خلفه. لم تشغله لهفة الوصول إلى منطقة آمنة، من مراقبة الأمكنة التي يعبرها وحفظ معالمها، لكي لايتوه في طريق العودة... وعندما بدت المعالم متشابهة وقليلة في تميزها... بدأ يخفف من سرعته، وكلما اختار بقعة للتوقف، انتبه إلى وجود بعض النباتات الصحراوية، أو يلمح طيراً، أو بعض أنواع الزواحف... فيؤجل التوقف ويتابع المسير.. فقد أراد أن يصل إلى منطقة تخلو تماماً من أي من الكائنات الحية.. فالسرعة مطلوبة، والحيطة واجبة في الأحوال العادية، فما بالك بمشروعه الخطير المرتقب (صحيح ما متنا، لكن شفنا اللي ماتوا!) قال في نفسه.

هاهي ملامح الكثبان الرملية تبدأ بالظهور أمامه.. ابتهج وأدرك أن هدفه بات وشيك التحقق..! توجه إليها بأقصى ماتملكه السيارة من سرعة.. حتى وصل إلى تخومها. وبدأت عجلات السيارة تنذره من خلال دورانها دون تقدم يذكر، بأن هذا المكان هو المبتغى.

أوقف السيارة وترجل منها، وقد تدلى على صدره المنظار المقرب وعلى خصره المطرة. وراح يستطلع من خلال المنظار عشرات الاتجاهات من حوله... تأكد بعدها أنه وحيد تماماً في هذه الصحراء القاحلة.. لم يثق بالمنظار! وضع كفه فوق حاجبيه مشكلاً زاوية حادة مع جبينه ليقي عينيه من أشعة الشمس اللاهبة. وبدأ يتطلع إلى البعيد البعيد.. وأيضا ًبكافة الاتجاهات.. لم يلفت انتباهه أي شيء سوى السراب.. وسكون الصحراء العظيم.. أيقن عندها أنه في مأمن من أية مخاطر يمكن أن يتعرض لها مستقبلاً من جراء ماسوف يقدم عليه.

وضع كفيه على وجهه بمحاذاة الفم بطريقة «طرزان» وكأنه ينادي شخصاً بعيداً.. وهم بتنفيذ ما عزم عليه..! إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة..! وأحس بضرورة معاودة التأكد من خلو المكان فاليقظة والحذر واجبان. وكرر ما فعله منذ برهة من مراقبة واستطلاع.. واطمأن أن لاخوف على ما سوف يقدم عليه إطلاقاً، وضع كفيه على وجهه مجدداً وطفق يصرخ بكل ما أوتي من قوة ساباً شاتماً الحكومة هاتكاً سرها بأقذع ما احتوته قواميس العرب من كلمات بذيئة..! حتى بُح صوته وجف ريقه..! ثم تلفت إلى جميع الجهات إمعاناً بالاطمئنان.. وتنفس الصعداء.

استلقى على الكثبان الرملية هامداً بسعادة لا مثيل لها، والعرق يتصبب من كافة أنحاء جسده. أسبل جفنيه قليلاً سارحاً مع اللذة بزوال مخزونه الهائل من التوتر والاحتقان.. ثم مد يده إلى المطرة وأفرغ في جوفه عدة جرعات من الماء البارد.. أحس خلالها بنشوة لم يعشها طوال حياته..

وبينما هو كذلك، لفت انتباهه في الجو بغتة، خط أبيض مستقيم ترسمه طائرة صغيرة تتقدمه كالنملة! جفل واعتكر وجهه وانتفض ملتاعاً! وبالكاد خرج صوته الأبح من فمه متلعثماً:

«يا إلهي! إنها طيارة نفاثة!! أيعقل أن تكون قد رصدتني؟!... لا....لا.. ولكن من يدري؟! ربما سمعت ما قلت وما فعلت! فالتطور الذي يحصل في هذا العالم، لاحدود له...! ما هذه البلوى يا ربي! كيف غلطت هذه الغلطة؟ لعن الله هذا المشروع من أساسه! فعلاً أنا مجنون كما قالت عني  زوجتي! ليتني وفرت قيمة استئجار هذه السيارة، وأنفقتها على وجبة طعام فاخرة بأحد المطاعم مع أسرتي.. أما كان من الأجدى؟ ضب أمتعته القليلة على عجل وقفز إلى السيارة».

أدار مفتاح التشغيل باستعجال: برررررررر! لم تدر!

أداره ثانية: برررررررر!...!

أداره ثالثة: برررررررر!!!..!

«قد تفرغ البطارية وأنا في هذه المنطقة النائية من العالم» قال في نفسه.. وضرب المقود بيده حائراً مرتبكاً..! ماالعمل؟!

تطلع صوب الطائرة النفاثة..! وجدها تبتعد!.. «أبعد أن قامت بتصوير وتسجيل كل ما اقترفت.. تذهب؟!» دمدم ساخراً وراحت أفكاره تتخبط في رأسه..

سيقولون لي: ولاه! لماذا سببت الحكومة! بماذا سأجيب؟!: سامحوني يا شباب! والله من قهري.. رابتي لا يكفيني لمنتصف الشهر.. الفساد استشرى لدرجة العلن.. لا يوجد إنسان في مكانه المناسب.. الأغنياء يزدادون غنى والفقراء الله يعينهم لاحول لهم ولا قوة.. لم نحصد من مسيرة التحديث والتطوير إلا مزيداً من الخيبة والإحباط...! لهذا لم أستطع التحمل، كدت أتمزق غيظاً وكمداً، فاخترت هذا المكان الموحش في الدنيا، وعبرت عن سخطي..! ثم أنه لم يسمعني أحد! أنا جبان يا شباب! والله لم أنتسب طيلة عمري إلى حزب معارض! حتى أن جاري الذي كان معتقلا ًوأفرج عنه.. لم أجرؤ على زيارته لأقول له الحمد لله على السلامة..!

ليس هذا فحسب، بل إنني لم أجرؤ على مجرد التفكير بالانتساب إلى أي حزب من أحزاب الجبهة..!!

لست من أصحاب المشاكل يا جماعة! الله وكيلكم عمري ما آذيت صوصاً.. وإذا كان تصرفي اليوم ينم عن سوء نية، فإنني أعلن التوبة لكم جهاراً نهاراً (قبل سبابته ووضعها على جبينه ثلاث مرات).

بسمل ثم حاول تشغيل المحرك من جديد... لم يفلح! داهمه ثقل مفاجئ!

نذر خمس دجاجات لوجه الله تعالى.. يطعمهم للدراويش..! تضرع لجميع الأنبياء والرسل والديانات السماوية والوثنية.. ولكن دون جدوى! راح يخبط يديه على ساقيه نادباً.

شعر بدنو أجله، وأن «عزرائيل» على وشك أن يمد يده إليه ينتزع منه روحه!

وضع رأسه بين يديه على المقود بقهر، وانفجر بالبكاء...!

بعد حوالي الساعة، ويبدو أنه أغفى قليلاً... حاول من جديد، عساه يتخلص من هذا الكابوس المرعب! تمتم مبسملاً متكلا ًعلى الله وأدار المحرك، جأر متقطعاً واشتغل! لم يصدق!!! دقق بحذر مصغياً ليتأكد من صوته ومن دورانه..! «نعم، إنه يعمل! ياي.. ياللروعة!» همس بصوت مكتوم كمن يبوح بسر! قبل التابلو والمقود فرحاً، وفاضت من عينيه دموع الفرح! نظر إلى السماء حامداً شاكراً ربه واعداً تقديم سبع دجاجات مع ديك بلدي.. وانطلق عائداً بسرعة وكأنه بحالة سباق مع الضوء...

 

■  ضيا اسكندر ـ اللاذقية