بمناسبة صدور أعماله الكاملة في مصر أنسي الحاج جامعاً جحيمه !!

كي نعرف الشّعر نقرأُ أنسي الحاج، فشاعرٌ مثله يعيد صناعة قارئه، ويتدخّل في مصيره، بما يفيض من حبٍّ وكراهيةٍ، من لعنةٍ وغفرانٍ، من صمتٍ وكلامٍ، من شرٍّ وخيرٍ. نصّه الناشز، المفارق، المبتعد، مضرّجٌ بالثنائيات التي يأخذها من صراعها الأزلي إلى مطارحات جديدة، فيصلح بينها، أو يعيد الفرقة.. وبمناسبة صدور أعماله الكاملة عن «هيئة قصور الثقافة» في مصر هذه الوقفة.

 هو، وكما جاء على غلاف كتابه «الوليمة» «شاعر قصيدة النثر، الشاعر الرائد المؤسس، شاعر الهاوية المحدّق إلى سماء يبصرها ملء عينيه، شاعر جمال الشرّ وفتنة النعمة، الناقم بحكمة، الساخط حبّاً، والمتأمل برقة، والمفتون بالصباحات الأولي».

شارك أنسي في مكيدة «مجلة شعر»، وكان لاعباً أساسياً في إشعال معركة «الحداثة» أو قصيدة النثر، حيث أُعلن التغيير، وإعادة النظر في معنى الشعر، والحياة، والإنسان، على ضوء مشروع الحداثة المندمج بروح العصر. ولئن كان صاحب «لن» قد بدأ شاعراً مع فريق الخال، فقد آثر أن يتابع المشوار، معهم، ناقداً ومترجماً، كي يساهم، بشكلٍ مباشرٍ، في صنع القاعدة النظرية، وصوغ أساساتها، ليكون لمستقبل الأيام التالية ماضٍ، باستعارة تعبير أحد عناوينه.

ظهرتْ مجموعته الشعرية الأولى «لن» عام (1960) عن دار «مجلة شعر»، مع مقدّمة عميقة، كتبها بنفسه، في صميم موضوع قصيدة النثر، والشعر بشكله المطلق، وقد أثارت «لن» ومقدمتها حرباً أدبيةً لا نظير لها في تاريخ الأدب العربي الحديث. والغريب في هذه المجموعة ـ العلامة، كما يرى عبده وازن: «ليست مجرّد مجموعة شعرية أولى، تحمل ما تحمل من براءة البدايات، بل هو كتاب النهايات التي ينتهي إليها الشعراء عادةً. ولا غرابة أن يعاكس أنسي الحاج مسرى الشعراء، وأن يبدأ من الجحيم، صارخاً صرخته الشهيرة: لن. فهو شاعر اللّعنة المبكرة، حلّت عليه كما حلّت على المراهقَين اللذين هدما جدران الشعر الفرنسي، وأقصد رامبو ولوتريامون». لقد رأى الحاج أنّ قصيدة النثر صنيع شاعر ملعون، وهكذا كتب قصيدةً نزقةً، متوترةً، ساخطةً، هاتكةً، معلياً شأن التدمير والتخريب اللذين اعتبر أولهما واجب الشاعر، والثاني منحه صفتي الحيوية والقداسة.

في العام (1963) أصدر مجموعته الثانية «الرأس المقطوع» مستلهماً يوحنا المعمدان، وتابع نشاطه التخييليّ المعتمد على التشتيت والحذف، ولصق الأحلام بالكوابيس، حتى يوصلنا إلى أقاصي تلك العزلة المرعبة التي عاشها. وقد بدا الكتاب قطيعةً وانفصالاً، وعراً وغريباً، حتى أنّ عباس بيضون اعتبر العمل حدثاً لم تستوعبه اللغة العربية.

بعد هذين الكتابين بات الشاعر يصدر عملاً كل خمس سنوات، حيث تتالت «ماضي الأيام الآتية» و«ماذا صنعت بالذهب؟ ماذا فعلت بالوردة؟» و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». في هذه الأعمال بدأ المتمرد يشفّ، ويتحوّل إلى عاشقٍ حسيٍّ وشهوانيٍّ، يقيم علاقته مع العالم من خلال الضمائر المؤنثة. مع الاتكاء على حسّ نبويّ. يقول في قصيدة «اذهبي.. اذهبي ولتتبارك الأرض» من كتابه «ماضي الأيام الآتية»: «في بلادي حيث الزّهر يشق الصخر، يسحقني الحرمان/ في بلادي، حيث البلابل على الشبابيك، والسماء على شفير الأرض/بيني وبينك غربة الظلّ عن الجسد».

في العام (1994) سيصدر مجموعته «الوليمة» بعد غياب طويل، نشر خلاله أعمالاً نثرية «كلمات.. كلمات.. كلمات» و«خواتم». هنا، كما في السابق، هو شاعر الحب، والوعي الحاد، واللاوعي المندلع من حرائق داخلية، متمماً ما انقطع بين «لن» وأخواتها. كثافة روحيّة، صفاء لغوي، تؤكدان عمق التجربة الذاتية، ووحدة العالم الإبداعي: «يوم ولدتُ كنتُ كبيراً. أمس كنتُ صغيراً يوم كبرتُ. ولولا الضوء لما رأيت من عمري سوى الرعشة. صغيراً كالبداية، وأنتِ كبيرةٌ ككل ما يجعل النهايات تبدأ من جديد» في نثره، وعلى الأخص في «خواتم»، عمد إلى ترسيخ طريقة مختلفة، تعتمد الشذريّة، الإرسال الخاطف، الإيماء الفنيّ، مستمداً سحره من تآلف النثري والشعري، في بنيان مجزأ، يحمل كلّية التجربة، ويصيب مواضيعه الأثيرة: الحبّ، الجنس، العدم، الصّمت، القداسة، الألوهة، الحرية...

الأساس في إبداع الكبير أنسي الحاج هو نزوعه الإنسي، بحيث يتمحور علمه على الإنسان وحياته، ومن عجيب المفارقات أنّ اسمه مطابق لتوجّهه نحو هذا الكائن.

■ رائد وحش

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الإثنين, 14 تشرين2/نوفمبر 2016 11:11