بعد خفوت العاصفة: «عزازيل» يوسف زيدان وما «وَسْوَسَهُ في صدورنا»

لم ينته حتى الآن الجدل الكبير والشائك الذي أثارته رواية «عزازيل» للمؤرخ المصري يوسف زيدان، وإن كانت العاصفة التي افتعلت بعد صدورها قد بدأت بالخفوت، مما يتيح المجال لتأمل أكثر عمقاً وجدية بما جاءتنا به هذه الرواية الإشكالية شكلاً ومضموناً.

«عزازيل» (اسم عبري من أسماء الشيطان) الصادرة عن دار الشروق المصرية في العام الحالي رواية مكتوبة بنفس تأريخي احترافي، يمكن تصنيفها ضمن إطار الأدب المعرفي التاريخي الذي يحاول إعادة ترتيب الوقائع التاريخية ذات الدلالة ضمن بنية مسرد روائي  شائق، في محاولة لإعادة تكوين وعي القارئ، وإضاءة الجوانب المظلمة من المسكوت عنه تاريخياً.

تعالج الرواية فترة مهمة من تاريخ المسيحية في منطقتنا، أي فترة النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، حين أخذت المسيحية بصيغتها الأرثوذوكسية توطد انتصارها السياسي والاجتماعي بوصفها العقيدة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية، وتفرض أولوياتها الفكرية قسراً على كل مخالفيها، بدءاً ممن حافظوا على التراث الهيليني، والتراث المحلي في المنطقة ذي الطابع «الوثني» (أي التراث المصري والسوري السابق للمسيحية)،  وانتهاءً بخصومها العقائديين من داخل المسيحية نفسها.

يتناول يوسف زيدان هذه الفترة التاريخية الهامة من خلال ابتكاره لشخصية «هيبا»، الراهب والطبيب والشاعر المصري الذي تلخص سيرته روح ذلك العصر، حيث نعيش من خلال أحداث الرواية رحلته الطويلة، المادية والروحية والفكرية، من منطلقها في مسقط رأسه في بلدته الصغيرة الواقعة جنوب مصر، وحتى منتهاها في دير معزول شمال غرب مدينة حلب، مروراً بالحواضر الكبرى في ذلك العصر كالإسكندرية والقدس. ومنذ البداية يوقعنا زيدان في شرك الإيهام الأدبي، حيث يدعي أن روايته ما هي إلا ترجمة أمينة لمجموعة لفائف أثرية مكتشفة في خرائب دير عتيق، كتبها الراهب هيبا باللغة السريانية، ونظراً للشهرة الكبيرة التي يتمتع بها يوسف زيدان، والمكانة العلمية المرموقة التي يحتلها بوصفه رئيساً لمديرية المخطوطات في مكتبة الإسكندرية، فقد انطلت حيلته الأدبية تلك على الجميع في الوهلة الأولى، بمن فيهم كبار المختصين بالدراسات السريانية!!

وسط ذلك الجو من الإيهام الأدبي المحكم نبدأ بالتعرف على الصراع الداخلي المضني الذي يعانيه الراهب هيبا وهو يحاول أن يقمع شيطانه الخاص الذي يوسوس له بسرد كل ما رآه وعايشه في حياته الحافلة، لينتهي ذلك الصراع بانتصار وساوس «عزازيل»، وهكذا يبدأ هيبا بكتابة حكايته الطويلة التي يمتزج فيها الشك باليقين، والإيمان بالإلحاد، والشهوانية بالعفة. ولكن من أين سيبدأ بطلنا سرد قصته؟ هل سيبدؤها بالحديث عن صديقه وأستاذه الكاهن نسطور (مؤسس المسيحية النسطورية) الذي تم قمعه وفرض الحرمان الكنسي عليه في العام نفسه الذي بدأ فيه هيبا كتابة لفائفه (431م). أم سيبدؤها بتذكر والده المقتول على يد بعض المسيحيين المتعصبين في مصر ،دون ذنب اقترفه سوى أنه حافظ على ديانته القديمة. أم سيفتتح كتابته بسرد قصة الفيلسوفة السكندرية  «هيباتا»  التي شهد بعينيه مقتلها والتمثيل بجثتها.

ما يسرده لنا هيبا هو آلام عصر من تلك العصور المفصلية المضطربة التي تخفت فيها كل الأصوات لصالح صوت وحيد، ويفقد فيها الإنسان خصوصيته الذاتية لتذوب في جماعية عصر وليد لايرحم، عنوانه الأساسي الكبت وتقييد الفكر والجسد. ولذلك فمن السهل علينا أن نفهم معاناة الراهب هيبا الذي انعكست في وعيه وطأة تلك الأحداث المضطربة، وبعد كل هذا فلا معنى للتساؤل عن كونه شخصية واقعية أم خيالية، فالخيال في رواية عزازيل يمتزج مع التاريخ ليشكلا معاً مرآةً تُجلي لنا الكثير من شروط الوجود الإنساني ضمن أطر الزمان والمكان...والسلطة بكل قمعها وتعصبها، وقد عبر يوسف زيدان عن ذلك بوضوح حيث قال في إحدى المقابلات التلفزيونية التي أجريت معه: «نحن نعتقد أن الأدب هو مجرد خيال، أما التاريخ فهو الحقيقة، ولكن الأمور ليست كذلك...ما هو التاريخ؟» وترك إجابة هذا السؤال معلقة تنتظر فطنة المتلقي.

سيكتشف القارئ في النهاية أن عزازيل ما هو إلا رمز لكل ما قمعه وطارده ذلك العصر، وأن  صراع هيبا معه ما هو إلا تمرد ذات تأبى أن تخضع للتأطير. وسيتعرف كلٌ منا على نفسه من جديد في شخصية هيبا، وسترهقه الخيارات ذاتها التي أرهقته، لندرك في النهاية أنه من الصعب التخلص من وساوس عزازيل، فالراهب هيبا الذي قرر أن يعتزل العالم في دير منسي ليسكت صوت عزازيل في نفسه، لا يستطيع إلا أن يقع تحت رحمة الإغواء من جديد، مرةً عندما وقع تحت سحر وإغواء «مرتا» مغنية الدير، ومرةً أخرى حينما خضع لوسوسة عزازيل الذي طلب منه أن يكتب قصته.

من حسن حظنا أن عزازيل انتصر في النهاية في نفس هيبا ومبتدعه يوسف زيدان، وإلا كنا قد فقدنا ذلك الأثر الأدبي والتاريخي الهام الذي ضيق فعلاً من مساحة المسكوت عنه واللامفكر فيه في حياتنا الثقافية المعاصرة.

 

آخر تعديل على السبت, 10 أيلول/سبتمبر 2016 12:27