زياد الرحباني.. فنٌّ عظيمٌ من تراب الواقع
«لا فن إن لم يعبر عن معاناة وأحلام وطموحات الناس».. هذه هي المقولة التي يثبت زياد الرحباني في كل منجزه إنها إمامه ومنهجه، فكلام أغنياته التي رددته حناجرنا ما هو إلا كلامنا.. إنه كلامنا في العمل والشارع والبيوت ومخادع النوم، في لحظات ضعفنا، وسنوات حلمنا، في غضبنا وفرحنا وحبنا، في سرنا وعلننا، يحمل كل ما نحمل من تفاصيل يوم شاق من العمل والأمل، هو يفهم أن كلامنا هذا ليس إلا انعكاساً لواقع رديء، فيأخذ على عاتقه إعادة إنتاج الكلام، علنا جميعاً نعيد إنتاج الواقع.
وبلمسات الفنان المتقد الذكاء والوعي والوجع، ينثر هذا الكلام ضمن موسيقاه، التي هي أيضاً موسيقانا (فنحن نعرفها جيداً لكننا فقط لا نعرف كيف نقولها!) ليتشكل عمل موسيقي فذ، فهو يذكرنا بواقع رديء خبرناه وعرفناه جيداً، لكنه ما أن يصل إلى أسماعنا حتى نشعر بوجع وألم شديدين أكثر من أي وقت مضى، مع أننا أكثر من يعرف هذا الواقع ومنذ زمن!
أمام موسيقا كلماتنا التي يطلقها زياد، يتجرد هذا الواقع في لحظات، وتتبدى صورة موغلة في الوضوح، فيغدو كل ما نعرفه عن الظلم والاضطهاد في هذا الواقع مكثفاً أمامنا، وعارياً من كل تزييف، فوضوح الصورة يجعلك تدرك كم أن مساحات البؤس تطغى فيها بشكل مريع، أي أنك تدرك الحقيقة ذاتها التي أدركتها منذ زمن، لكنك هنا تدركها بشكل مريع!
وهذا هو الفن العظيم، وهنا تكمن قوة تأثيره في الجمهور، إنه حين تكون الحقيقة فيه أشد إيلاماً من الواقع نفسه كما عرفناه في الحياة، وهذا الألم هو الذي يخلق الطاقة السحرية لدينا، والتي بدورها تخلقنا وتخلق من يخلقها... تخلق زياد جديداً.
لكن كلماتنا السابقة لا تنقل لنا سوى الظاهر من الجوهر، أما في جوهر زياد فقد أدرك منذ البداية الارتباط الوثيق بين إنشاء صورة فنية ذات معنى، وامتلاك الفنان لأحكام معينة عن هذه الصورة، فانطلق من فكر ومنهج صلب، ورفض زياد دوماً ما يقال عن أن الإنتاج الفني المبتذل جاء ليقابل طلباً عليه في السوق، فهو لا يساوي الإنتاج بالاستهلاك، إنه يدرك أنهما في علاقة جدلية على طول الخط، ويدرك أن الإنتاج وهو نقطة البدء الأساسية، إن هذا الإنتاج ينتج الاستهلاك أيضاً، وينتج أنماط الاستهلاك وكذلك ينتج المستهلكين!.
أصر زياد على أن إنتاجاً فنياً راقياً يكون منطلقاً من الواقع، ويمتلك عناصره الجمالية، سيربي جمهوراً يتذوق الفن والجمال، وهذه المشاعر والذائقة الجمالية وعلى سعة انتشارها وتأثيرها، ستكون بمثابة «ترياق الفن» الضروري لإعادة الفنانين إلى الحياة مجدداً!
زياد وبعد أن يضيق ذرعاً بالمذيعة (أثناء لقائه الإذاعي على إحدى الإذاعات السورية) وهي تسأله مراراً وتكراراً عن سبب تدهور الثقافة، يقول بلهجته المعهودة «المشكلة مش بالثقافة، المشكلة بالعالم»، والعالم هنا ليس بمعنى البشر، لكن بمعنى النظام العالمي الليبرالي المتوحش الذي يحول كل شيء إلى سلعة، وهذه السلعة وهي محكومة بالنهم الذي لا يرتوي للربح، تتجرد من كل شيء سواء أكان إنسانياً أو أخلاقياً أو حتى جمالياً، وكل ذلك لا يمكن أن يشكل قاعدة لفن إنساني موجه نحو المجتمع، ويتابع زياد في اللقاء نفسه ويقول: إنه ليس من قبيل الصدفة أن تتراجع جودة الصناعات بشكل عام مثلاً، وبحسه الساخر يعلق على فكرة المنافسة في سبيل جودة أفضل فيقول: «واضح أنها المنافسة في سبيل ربح أفضل مش جودة أفضل، لإنو طلع المنيح بيخسر إذاً هوه مش الأفضل!!».
فإذا كانت الرأسمالية قد طورت قوى الإنتاج بشكل كبير، وهذا بدوره ساهم بالجزء الأكبر من تقدم وتطور البشرية، وبشكل لم يحدث في أية مرحلة تاريخية سابقة، فالرأسمالية ذاتها هي من أقام جداراً بين ما يمكن أن يحققه هذا التطور وما تريد هي تحقيقه فعلاً، أو حتى كيف يمكن استخدامه، والفن الذي لا يخترق هذا الجدار، يبقى بدائياً في أشد مراحل التاريخ تمدناً وتطوراً، فبعض الفنون في بداية التطور الرأسمالي وحتى ما قبله كانت أرقى بما لا يقاس مع ما تقدمه لنا الرأسمالية اليوم من فن منحط بكل معنى الكلمة.
وزياد أيضاً هو الرد المناسب على ما يدعى «الفن للفن» أو حرية الفنان في التجرد من كل شيء طلباً لقيمة الجمال!!، فالأديب الفرنسي الشهير كامي وهو يطالب بحقه في ألا يكون محكوماً بأي شيء يقول مستهجناً: «يبدو أن نظم قصيدة اليوم عن الربيع ربما يعني تقديم خدمة للرأسمالية»..
ونحن نقول إن دعاة عدم الالتزام الفكري إنما هم دعاة لأفكار معينة أخرى، ومن ثم فكيف يمكن أن تكتب قصيدة عن الربيع إلا كانعكاس لشعور وأحاسيس ومعاناة الإنسان؟ فليس الفن بشيء ولو دعي فناً في تصويره للربيع متجرداً من الإنسان والواقع والحياة، لكنه يكون فقط عندما يصوره في تلقي الإنسان له، وفي هذا يقول الشاعر الألماني غوته: «إن رسم الكلب بدقة وعناية يجعلني أبتهج تماماً كما أبتهج لظهور كلب ثانٍ، لا كإنتاج فني جديد».
فزياد الرحباني بوعيه وفكره استوعب زمانه بقوة، ورسم دوره عن سبق إصرار وتعمد، ليخرجه في قالب فني مبدع كان يتبدل باستمرار، لا بهدف التجديد، لكن انعكاساً لواقع متغير، فيرفع من حدة ومباشرة رسالته الفنية، حتى ليصل في لحظة من لحظات احتدام الصراع إلى الكلمة المباشرة، ومع هذا المستوى قد يصعب الحفاظ على الشكل الجمالي الفني، لكن ليس على عبقري مبدع.