قيس مصطفى قيس مصطفى

بارانويا الثقافة الجديدة في مصر مبارك..

لا يصدق بعض (المثقفين) المصريين أنّ هناك شعوباً غير شعبهم، ولا ثقافة إلا ثقافتهم، ولا رياضة إلا رياضتهم. هكذا يشن الفنانون المصريون المستزلمون لنظامهم، حروباً ضد الجميع، (طبعاً ليس هذا كل ما لدى المصريين إذ ثمة بالتأكيد أفواه مكممة).

لا يمكن نسيان كرنفالات العبث والجنون التي قام بها نخبة من الممثلين والكتاب المصريين ضد الجزائر لأن منتخبهم خسر مباراة لكرة القدم. كرنفالات لم تكن متوقعة في أسوأ الأحوال، هكذا تكون البارانويا الثقافية على أصولها، واحتقار المصريين لكل ما هو ليس مصرياً يظهر كل يوم بشكل لم يعد مقبولاً. جائزة البوكر للرواية العربية يجب أن تكون للمصريين- حصلوا عليها مرتين- وهم الآن إما أن يأخذوها أو يتكتلوا ضدها. يمكن مراجعة احتجاجات الأستاذة الناقدة المصرية شيرين أبو النجا وإسهاباتها ضد ترشيح الروائيين العرب. ومنطق هؤلاء الخفي في هذا الأمر هو أن جوائز الدنيا لا بد أن تعود إلى أم الدنيا. أما جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية - حصل عليها الزميل خليل صويلح هذا العام- فهي تمنح بالتناوب، سنة لمصري والسنة التي تليها لعربي، وبهذا لا يتنافس المصري مع أحد لأنه فوق الجميع نهائياً وأبداً.  البعض يتصور سليل الفراعنة حكام مغارب الأرض ومشارقها. إنها الفرعونية إذاً، تلك النزعة التي وقع الشعب المصري بين براثنها، نتيجة لما يمارسه النظام المصري من تجويع للشعب المصري، وهضم لحقوقه الوطنية والقومية خصوصاً بصفقات الغاز مع الكيان الإسرائيلي الغاصب. تلك الصفقات التي يدفع ثمنها الشعب المصري جوعاً وحرماناً. والتي يبيع النظام المصري فيها غاز الشعب المصري بخسارة فادحة لاقتصاده وقدرته على الصمود.
يصرح الفنان والمنتج «سامي العدل» ضد الفنانين السوريين من على «إم بي سي» لمجرد أن الدراما السورية في طور الصعود إن لم تكن قد تقدمت على الدراما المصرية، وينظر العدل للمخرجين السوريين باستعلاء غير مبرر، فهو يرى العاملين في الدراما السورية مجرد «أناس رخيصي الأجر» لأنهم يتقاضون أجراً أقل من أجور نظرائهم المصريين. لم يعد الفنان المصري يقبل ألا تكون الهوة واسعة بين الطبقات. فعندما جمع الفنانون المصريون ثرواتهم الطائلة كانت حكومة بلادهم ترضخ للسياسات الأمريكية وتتلقى أطنان القمح على هيئة مساعدات من بلاد العم سام. من أجل إطعام الثمانين مليوناً من أحرار المصريين المظلومين من نظام حسني مبارك، وخليفته القادم جمال. وياللمفارقة بين الجمالين، عبد الناصر الخالد في ضمير الشعب العربي، ومبارك الفتى الذي يتسلط ويضرب بيد من حديد على أيدي العباد. ولكن «مصر خير كلها رغم الزمان الغادر المتصرّم» باستثناء متأمركيها الجدد من النخب التي بدأت أصواتها تعلو هنا وهناك.
ينظر «سامي العدل» إلى الفنان السوري على أنه رخيص الثمن، ومع ذلك يتناسى ذلك الطابور الطويل من المصريين العاملين في دول الخليج العربي على أنهم «عمالة رخيصة» إذ لا تصح مقارنة الفنان بالعامل، لتعاسة المقارنات هذه الأيام. رغم أن الممثلين هم أسوأ أشكال العمال. يتناسى منتج «ماشفش حاجة» طابور المصريين في الدول التي تمنع النساء من قيادة السيارات. هناك حيث يطلق على العرب من مصريين وسوريين وأردنيين صفة الوافدين، من أجل إلصاق التهم الجنائية بهم، وهكذا نقرأ في صحافة الربع الخالي أن وافداً اعتدى، ووافداً سرق.. إلخ. حيث لا يقوم أمراء الصحراء هناك إلا بإنفاق ملايين الدولارات من أجل قضاء ليلة واحدة في يخت يجمعهم بحسناء من حسناوات هذا العالم البائس. دول يرقصون بها بالسيوف مع القتلة.
لا يشتم الفنانون السوريون نظراءهم المصريين. ولكن معظم مصريي النظام لا يتوانون عن ذلك. «فالمثقف» المصري  المعاصر عموماً يتغاضى عن الجدار المصري الخانق للفلسطينيين في غزة، ولكنه في الوقت ذاته لا يفوت فرصة ليقيم الدنيا ويقعدها من أجل كرة منفوخة من الجلد. ربما كانت المسألة بحاجة إلى نقاش مستفيض يفند هذه الحالة التي بدأت تستشري بشكل لم يعد مستساغاً. أما عادل إمام صاحب «السفارة في العمارة»، والذي رفض في يوم من الأيام تقديم عروض إحدى مسرحياته بحضور السفير الإسرائيلي، فإنه انقلب اليوم، كرمى عيون جمال مبارك، وصار يرى في قوافل العون التي يبعث بها العالم إلى غزة مصدراً لمشاكل المصريين. يرى الفنان المحبوب الذي سكن العمارة عن سبق الإصرار والترصد هذه الأيام، أن غزة هي مبعث لمشاكل الشعب المصري، لكنه لا يرى عيباً في طاغية شرم الشيخ ومؤتمراتها المتعاقبة التي يتآمر فيها مع الإسرائيليين على الدم الفلسطيني. وتمادى ليصل به الأمر حد تنظيم حفلة طقوسية (سماها حملة) يبرهن فيها على أن الشعب المصري يؤيد بناء جدار الفصل العنصري الجديد حول غزة. وبهذا ينصب نفسه ناطقاً باسم الشعب المصري الذي لم يعرف العرب عنه إلا الفداء والتضحية. هكذا أصبحت التضحية مجرد مزاودات، وأصبح دعاة التضحية مزاودين. يالهذا الزمن الرديء!! المزيد من الجدران لخنق الفلسطينيين والمزيد من المداميك يبنيها (مثقفون) كان أجدر بهم تنظيم حملات لتنظيف المدن، ولإغاثة سكان المقابر وأحياء الصفيح. ولكنها الثقافة، تعمي أصحابها، وتجعلهم ليبراليين إلى الحد الذي يهدرون فيه كرامة الآخرين وحقهم بالعيش. هكذا يستطيع حسني مبارك هدم الأنفاق، ولكن التاريخ الذي يكتبه أحد ما في مكان ما، لا بدّ أن يسجل كلّ هذا (الخواء) ويمكن للساخطين كثيراً استبدال الواو براء. لأن ذلك التوصيف الحقيقي لهذه المرحلة.
 
لماذا يا زيدان؟!
 
يوسف زيدان رئيس قسم المخطوطات في مكتبة الإسكندرية، الباحث الرصين في التاريخ الإسلامي، صاحب الدراسات المتميزة عن العرفان الصوفي، والحاصل على جائزة البوكر العربية عن روايته المميزة «عزازيل»... باختصار صاحب هذه المكانة المرموقة معرفياً وأدبياً وثقافياً، لم يستطع إلا أن يلتحق بذلك الركب الهزيل؛ ركب انحدار الثقافة المصرية التي كانت في يوم من الأيام مركز الثقل والتأثير والجذب الفكري لكل الناطقين بلسان الضاد، والتي قدمت فيما مضى عشرات المثقفين النقديين الذين بدلوا الكثير من المفردات الجامدة للثقافة العربية.
يوسف زيدان الذي نتحدث عنه الآن هو صاحب مقالة «ذكريات جزائرية» التي قذف فيها شعباً عربياً بأكمله بأقذع النعوت، واتهمه بالهمجية والتخلف والانحطاط. صديقنا زيدان الذي وضع على لسان «هيبا» بطل روايته الشهير أكثر الأسئلة حساسية ومحورية، حتى جعله مسائلاً لعصر تاريخي بأكمله، لم يكلف نفسه حتى مشقة طرح أسئلة أجوبتها شديدة الحضور والوضوح:  لماذا تم التلاعب  بعواطف الشعب المصري وتهييجه بشدة من أجل مجرد مباراة كرة قدم لا تساوى شروى نقير (وخصوصاً بالنسبة لباحث كبير غارق بين مخطوطاته العتيقة)؟ ولماذا اندفعت «النخب» المصرية للمشاركة في هذه المهزلة الكبرى بدلاً من أن تلعب الدور المفترض بها في الدعوة إلى التعقل والهدوء؟
أسئلة لن تصعب إجابتها على من هو بمكانة زيدان، فهل عجز حقاً عن الإجابة؟ أم أنه اندفع في حماقته المخجلة رغم معرفته بالجواب؟
سنغلق آذاننا وعقولنا كما فعل زيدان كي لا نسمع ولا نعي الإجابة المخجلة لهذين السؤالين.