زهير محمد ناجي زهير محمد ناجي

بحثاً عن عدالة اجتماعية

«وكان سليمان [بن عبد الملك الخليفة الأموي الخامس] قد ولى رجلاً من موالي معاوية يقال له أسامة بن زيد [التنوخي] من أهل دمشق وكان كاتباً نبيلاً خراج مصر فبلغه أن عمر بن عبد العزيز [الرجل التقي الزاهد وابن عم الخليفة سليمان وصهره وزوج أخته فاطمة وصديق سليمان ومستشاره والذي أوصى له بالخلافة فكان الخليفة الأموي الثامن وخامس الخلفاء الراشدين لتأسيه بهم وإتباعه سنتهم] يعرّض به ويغمص عليه في سيرته فقدم أسامة بن زيد على [الخليفة] سليمان بمال واجتمع عنده وواقفه على ما احتاج إليه وعمل على الرجوع إلى عمله، وتوخى وقتاً يكون فيه عمر بن عبد العزيز عند سليمان [في مجلسه] فلما بلغه حضوره مجلسه [مجلس الخليفة] استأذن عليه فلما وصل إليه قال له: يا أمير المؤمنين إني ما جئتك حتى نهكت الرعية وجهدت فإن رأيت أن ترفق عليها وتخفض من خراجها ما تقوى على عمارة بلادها وصلاح معاشها فافعل فإنه يستدرك ذلك في العام المقبل..فقال له سليمان:

- هبلتك أمك احلب الدر فإذا انقطع فاحلب الدم النجأ...

فخرج أسامة بن زيد فوقف لعمر بن عبد العزيز حتى خرج فركب... فسار معه وقال له: إنه بلغني يا أبا حفص أنك تلومني وتذمني وقد سمعت اليوم ما كان من مقالي لابن عمك وما رد علي وعرفت عذري.

فقال عمر: سمعت والله كلام رجل لا يغني عنك شيئاً...

فلما توفي سليمان كتب عمر وهو على قبره [قبل أن يدفن] بعزل أسامة بن زيد وبعزل يزيد بن أبي مسلم... فاغتابه الناس [يقصد بالناس هنا رجال البلاط ومن لف لفهم من رجال الطبقة الحاكمة] وقالوا:ألا صبر حتى يدفن الرجل؟ فقال لما بلغه ذلك: إني والله خفت الله عز وجل وأستحييه. أن أقرهما يحكمان في أمور الناس طرفة عين وقد وليت أمورهم». «عن كتاب أبي الوليد محمد بن عبدوس الجهشياري مخطوط مطبوع في مدينة فيينا عام 1926».

وقد وردت عبارة الخليفة سليمان عند المؤرخ المملوكي ابن تغري بردي في كتابه النجوم الزاهرة الجزء الأول الصفحة 231 كما يلي: «قال الكندي [المؤرخ] : كتب سليمان بن عبد الملك إلى أسامة: احلب الدر حتى ينقطع واحلب الدم حتى ينصرم.. قال: فتلك أول شدة دخلت على أهل مصر» .[أي بداية الظلم الذي مهد لسقوط الدولة الأموية وما بعدها من دول].

هذا النص كيفما روي يدخل في باب سياسة الرعية ودوام الملك والسلطة التي هي تاج على رؤوس من يملكها فرداً كان أو جماعة.. سلالة حاكمة أو حزبا حاكماً وفيه مجال كبير للتحليل التاريخي أو الفلسفي أو الديني أو السياسي أي فيه مجالات متنوعة للقول حسب الزاوية التي يراه فيها قارئه وحسب العقلية الإيديولوجية التي يؤمن بها والطريقة التي يفكر بها..

سياسة عمر بن العزيز كانت تمثل روح الدعوة الإسلامية.. روح الرسالة السماوية الداعية إلى سعادة الناس في الدنيا ومن ثم في الآخرة والداعية إلى العدل ومحاربة الظلم والرحمة بالناس «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وهي ككل دعوة سماوية تهدف من حيث الأساس والجوهر إلى ضمان سعادة الناس على الأرض ومن المعروف في التاريخ الإسلامي إن هذه الروح هي التي أدت إلى سهولة تحرير الأراضي العربية  المحتلة من الحكام الغرباء في بلاد الشام والعراق ومصر وشمالي إفريقية من فرس وبيزنطيين وفاندال وفيزيغوط. وامتدت فيما بعد لتحرير أراضي شعوب مختلفة غير عربية من تحكم طبقات ظالمة لشعوب قبلت الإسلام أو حكم المسلمين لأنها كانت في بدايتها أعدل من كل حكومة سبقتها وهو واقع تاريخي لا جدال فيه مهما شابته أحياناً من الشوائب.

ذلك أن الحكومات التي كانت تحكم الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية كانت حكومات فاسدة في مجتمع طبقي/عبودي استشرى فيه الظلم وأنهكت شعوبه واضطهدت تحت مسميات مختلفة. اضطهاد وثني، واضطهاد ديني، واضطهاد مذهبي، واضطهاد طبقي.. مما جعل رعايا هاتين الإمبراطوريتين معادين لحكامهم ينتظرون الفرج من السماء ومن الأرض فكان أن جاء الفتح العربي فتحاً أرضياً عده المظلومون في هاتين الإمبراطوريتين فتحاً سماويا.

غير أن أعدل حكومة لا بد أن يشوب القائمين على الحكم باسمها بعض الخلل وأن يركب موجتها كثير من النفعيين والأنانيين والمستغلين فيحاولون أن يفرغوها من محتواها مما يدفع الحاكم الصالح لأن يقف بالمرصاد لهؤلاء العابثين حماية للدعوة نفسها وللحكم الذي يمثلها. وهكذا فعل عمر بن الخطاب حينما حاول بعض المستغلين وبعض بقايا المؤلفة قلوبهم أن يتحولوا إلى مالكين لثروات الأمة،  وتابع حفيده وسبطه عمر بن عبد العزيز الأموي...

ولكن هل استمر هذا الحكم العادل بعد أبي بكر وعمر وعلي وعمر بن عبد العزيز؟!! أم أدى إلى انهيار الحكم العربي الإسلامي حينما تحول الحكام إلى طغاة فأدى عملهم إلى صراع داخلي كانت من نتيجته انهيار الدول العربية؟!! دون عدالة اجتماعية تنفض الجماهير من حول حكامها ويسهل إسقاطها من خارجها أو من داخلها.

نرجو من القائمين على شؤون الناس والذين يتأمل الناس منهم خيراً ألا يحلبوا الدر حتى ينقطع، والدم حتى ينصرم، وأن يبعدوا عن التحكم بمصير الناس أمثال أسامة بن زيد وأضرابه، ليبقى للناس «در» و«دم» يمكنهم من دفاع عن وجود الأمة كلها في هذه الأوقات العصيبة.