منار ديب منار ديب

«المسكوت عنه» المقول إلى حد الملل

ثمة «مسكوت عنه» يفترض أنه مسكوت عنه، متداول وشائع، مردد ومقلد، إلى الحد الذي يسمح بالتساؤل هل هو مسكوت عنه فعلاً، فالمثقفون صاروا نقديين بصورة معكوسة وتشكل ضرب من الإجماع «النخبوي» والقطيعية النخبوية، حتى أصبح ما يفترض أنه مبتذل وشعبوي هو المسكوت عنه.

مثلاً يمكن أن يقول أحدهم إن (إسرائيل) دولة حضارية تحاكم المعارضين لسياساتها الرسمية من مواطنيها محاكمات «عادلة» ولا تعدمهم ولا تعذبهم، وإن هذه «الدولة» ديمقراطية ومتطورة وتوفر مستوى معيشياً لائقاً لسكانها، وإن معظم المواطنين العرب يتمنون لو كانوا ينعمون بفردوسها.

أولاً هذه الصورة مجتزئة وانتقائية ولا ترى أبعاد الصورة كاملة، لا تدقق في التفاصيل وتسلم بظاهر الأمور ولا تذهب إلى جذور المشكلة، أو تطرحها بشكل مغلوط وغير ذي صلة، ثانياً هذه الرؤية قاصرة ميكانيكية ورياضية تتعامل مع البشر كأفواه وبطون لا كذوات فاعلة وجماعات لها وجدانها الأخلاقي وطموحاتها القومية وحقوقها السياسية.

مثلاً الاحتلال الأمريكي نقل العراق إلى الديمقراطية وأخرجه من ظلام الدكتاتورية، وهو سيرحل على أية حال، وما قتل من العراقيين على يد العراقيين أضعاف من قتلهم الأمريكيون.

هل يمكن الحكم على الديمقراطية العراقية اليوم، هل تشكلت الصورة، ألا يعاد إنتاج دكتاتورية طائفية، هل القضاء على الديكتاتورية يعني القبول بالاحتلال بالضرورة، هل أعمال القتل البشعة تبرر جرائم الأمريكيين هذا إذا افترضنا أن المعلومة بحد ذاتها صحيحة، وألا يثير الاحتلال حساسية وطنية وسيادية من أي نوع، وهل فعلاً قام بعمل خيري بإسقاط النظام السابق، وهو لا يريد شيئاً وسيرحل مع انتهاء مهمته.

إما أن في الأمر سذاجة أو حسن نية مفرط إلى درجة البلاهة، لكن الأدق القول أن هناك سوء نية مبيتاً،  ونظراً بعين واحدة عن قصد، فالجندي الأمريكي الذي يقدم مساعدات لمدنيين عراقيين لا ينفي عنه أنه ينتمي إلى جيش احتلال تسبب بمقتل مليون عراقي في حرب لا مبرر لها بعد حصار جائر، والنظام السياسي الإسرائيلي الذي يحاكم جندياً إسرائيلياً قتل مدنيين فلسطينيين هو النظام الذي يعطي الأوامر لجيشه لقصف أهداف مدنية عن سابق إصرار، وهو نتاج وجود استعماري غير شرعي في المنطقة.

رغم غربة تلك الطروحات عن الوجدان العام إلا أنها وتنويعاتها المختلفة متداولة بكثرة، بصيغة الحقيقة التي لا يجرؤ أحد على قولها، وتصير الطروحات المخالفة شعارات جوفاء، بينما المثقف الذي يقدم نفسه على أنه نقدي لا يقوم بأكثر من تغييب حسه النقدي ورؤيته المركبة وتعقيده الفكري، بل وضميره وشعوره بالانتماء.

المسلمة النخبوية الدارجة اليوم، مع إنتاج النخب الإعلامية لمسلمات بدلاً من نقدها، هي الخطر الإيراني، والتي تتبعها طائفية وظلامية حركات المقاومة وإثارتها للانقسامات والحروب الأهلية، ويبرز تهافت هذه المسلمات الزائفة، مع تجاهل مسلمات حقيقية وأكثر تماسكاً كالخطر الإسرائيلي والاحتلال الأمريكي، أو الإشارة إليها على سبيل رفع العتب أو لوضعها مع إيران بالسلة نفسها، في نوع من عدالة الظلم، لو راقبنا ما يكتب عن إيران اليوم في الإعلام العربي الأكثر انتشاراً لوجدناه يزيد بإضعاف عن ما يكتب عن إسرائيل، بينما يغض الطرف عن استضافة دول عربية لقواعد عسكرية أمريكية وتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة التي تفعل كل يوم ما من شأنه أن يقنع العرب أنها ليست صديقاً، وأنها لن تضحي بعلاقتها مع إسرائيل بأي ثمن.

هذا المسكوت عنه المزعوم لماذا يستأثر بالمنابر إذا كان طرحه بتلك الخطورة، ولماذا يتكرر طرحه في استنفار للأدوات اللغوية والثقافية إذا كان حقيقياً ومتماسكاً، هل لشعور قائليه بأنه يفتقد  إلى الإقناع.