قيس مصطفى قيس مصطفى

مائة عام على ولادة الشاعر الرجيم «جان جنيه» الإقامة المفتوحة في جحيم المقهورين

ربما كان وجود ناشر فلسطيني كسعيد البرغوثي على رأس مؤسسة «دار كنعان للدراسات والنشر» السبب الذي سهل للدكتور مالك سلمان إصدار كتابه «جان جنيه.. شعرية التمرد» وذلك قبل حوالي ست سنوات من اليوم.

كان إصدار الكتاب بمثابة تحية إلى شاعر كبير شكل وقوفه إلى جانب القضايا العربية والفلسطينية علامة فارقة في مسيرته التي يتتبعها اليوم الكثيرون من المشتغلين في الثقافة على امتداد العالم. ويبدو الفلسطينيون عموماً أكثر من يجب أن يحتفي بهذه الشخصية الإشكالية والقامة الشعرية والمسرحية الفذة. ولأن الحالة الثقافية الفلسطينية يرثى لها، فإن أحداً لا يتذكر هذا الرجل إلا لماماً. هكذا لا تتوانى بعض الجهات الفلسطينية اليوم عن توزيع السلاح من أجل الاقتتال والتناحر الداخلي في وقت يهملون فيه «الثقافة» التي هي طوق النجاة الأخير لآخر الشعوب التي بلا أوطان على وجه الأرض.

مئة عام مضت على ولادة جان جنيه. وكان يجدر بالعربان تذكر هذا الشاعر الرجيم الذي وصفه جون بول سارتر بـ«الشهيد». ولكن قلة من وقفوا عند ذكرى جنيه صاحب الشهادة الأهم على مجازر صبرا وشاتيلا التي نفذتها عصابات «الحرية والاستقلال» بقيادة ميدانية من غير المغفور له إيلي حبيقة.. وبتنسيق مع مجرمي الحرب سمير جعجع وكريم بقردوني المأمورين جميعهم من السفاح أرييل شارون.  هكذا كتب جان جنيه شهادته «أربع ساعات في شاتيلا» لتكون جزءاً من الوثائق التي يجب محاكمة الكثير من القتلة بناء عليها.

صاحب رواية «يوميات لص» و مسرحية «الشرفة» الذي قاتل إلى جانب الفلسطينيين بالكلمة، والذي تسلل إلى الولايات المتحدة دعماً للفهود السود، والذي سجن أثناء تظاهره للدفاع عن قضايا العمال المهاجرين في باريس، لم يلبث أن يرحل عن هذا العالم سنة 1986. بعد أن أذهل كبار مثقفي العالم بقدرته على ممارسة الشغب، والوقوف من منطلقات هامشية بحتة في وجه المتن الذي شكلته السلطات في الكثير من دول العالم. إنه المتن الذي يلفظ الزنوج والمهاجرين، ولا يغفر للخطائين في مسيرة مستمرة من العقوبة التي كأنها تتوالد من تلقاء نفسها في وجه الضعفاء والمضطهدين. ليس مستغرباً في سيرة هذا الشاعر أن يدخل الزنازين مرات عديدة، وصل به في إحداها إلى أن يحكم عليه بالسجن المؤبد، لولا وساطات جان كوكتو وجان بول سارتر المتكررة.

محلياً، واحتفاء بالذكرى، نشرت دار نينوى كتاباً بعنوان «جان جنيه- أنشودة الحب» من تأليف مجموعة من الكتاب بينهم جان جنيه بترجمة رجاء الشبلي، ويتضمن الكتاب وثائق تنشر للمرة الأولى تلقي الضوء على جان جنيه. ويدور الكتاب في فلك الفيلم السينمائي «أنشودة الحب» (1950) حيث يذهب الكتاب إلى أن كل ما قام جنيه بتأليفه من مسرحيات وأشعار يتمحور أو ينطلق من هذا الفيلم. حيث تذهب مارين جافريزيك إلى أن السينما قد «ساهمت كمصدر إيحاء متميز، في أن يكون جان جنيه كاتباً قبل كل شيء». فعندما ظهر فيلم جان جنيه الصامت والذي يمتد على 25 دقيقة صنع حالة من التضارب في الأوساط والنخب الثقافية والفنية إذ وصف الفيلم بأنه «يهدف إلى نشر الشذوذ الجنسي والانحراف والممارسات الخطيرة»، في حين علق جان كوكتو بالقول: «كان جنيه يفكر أن يصنع فيلماً ثورياً، ولم ير إلى أي درجة كان ذلك مضحكاً»، إلا أن الفيلم بعد فترة ليست طويلة سيتحول إلى «أشهر فيلم قصير في التاريخ الأوروبي يتحدث عن الشذوذ الجنسي» كما قال طوني رين. والفيلم تدور بكرته في عوالم خاصة للمساجين في الزنازين المفتوحة على كل المسلكيات، ومنها العنف الجسدي. القوام الأساسي للكتاب هو نسب المواقف الفاصلة، والشخصيات المميزة، واللقطات الشعرية الباذخة التي اقترفها جينيه في مؤلفاته، ستتبع إلى الكثير من مشاهد هذا الفيلم الذي يبدو فيه وكأنه يغوص داخل أعماق نفسه.

على صعيد آخر انتهت قبل أيام عروض مسرحية «الخادمتان» للمخرج العراقي جواد الأسدي وذلك في القاعة المتعددة الاستعمالات في دار الأوبرا. عرض الأسدي مأخوذ عن «الخادمات» لجان جنيه. ويعتمد بالدرجة الأولى على حضور الممثلتين كارول عبود وندى أبو فرحات على خشبة المسرح، للتعبير عن تلك العلاقة التي تربط السادة بالعبيد. ويعتمد العرض على لغة شعرية قادمة من اشتغالات جان جنيه المسكون بشكل نهائي بالتناقضات الإنسانية في أعماله التي تنتصر للمظلومين دائماً. يروي العرض المسرحي قصة خادمتين تقومان يومياً باستعارة ملابس سيدتهما رغبة بالتحرر من كل ذلك التسلط لسيدة غائبة، يظهرها جواد الأسدي على (سلايد)، ومحاولة الخادمتين بلعب دور السيدة التي تنتهي بالموت متجرعة للسم في حكم أزلي على المظلومين بالقهر. وتشير هذه المسرحية في النص الأصلي إلى حادثة قديمة شغلت القضاء الفرنسي وقتها، وذلك عندما قتلت خادمتان سيدتهما لتدخلا في نوبة من الفرح العارم. 

مختارات 

أنا قتلتُ، سلَبتُ، سرقتُ، خُنتُ. يا للمجد الذي حقَّقت! لكني لم أدّعْ أي قاتلٍ عادي، أو لصٍ، أو خائنٍ، يستغلَّ مُبرِّراتي. عانيتُ آلاماً مبرّحة لأظفَرَ بها. إنها صالحةٌ فقط لي. هذا التبريرُ لا يمكنُ لكلِّ مَنْ هبَّ ودبَّ أنْ يلجأَ إليه. أنا لا أحبُّ مَنْ ليسَ لديهم ضمير.‏‏‏‏‏

لقد أرسلَ الفوهرر أجملَ رجاله ليلاقوا الموت. كانت تلك طريقتَه الوحيدة لامتلاكهم. كم من مرَّةٍ رغبت في أن أقتلَ أولئك الفتيان الوسيمين الذين كانوا يزعجونني لأنه لم يكن لديَّ عددٌ كافٍ من الأيور لأخرقهم بها في وقتٍ واحد، ولا ما يكفي من المني لأحشوهم به! أشعرُ أنَّ طلقَةً من مسدسٍ كانت خليقة أن تُهَدِّئ من غلواء قلبي وجسدي وغيرتهما. كانت ألمانيا خازوقاً مشتعلاً نُصِبَ لأجلِ ريتون، خازوقاً أجملَ من خازوقٍ من لهبٍ، وقماشٍ، وورق. وخلال نوباتٍ وفتراتٍ قصيرةٍ، بلا انتظام، كان اللهبُ، والجمرُ، والجُذى ، تكسبُ عيشَها وموتها، تعضُّ، هنا وهناك، وتُهدِّدُ هتلر. إنَّ تلاعباً بسيطاً جداً – بعد تخليصِهِ من السخرية اللفظيّة – يكفي الفكاهة كي تكشف عن مأساةِ وجمالِ حقيقةٍ ما أو روح. هذه اللعبةُ تُغري الشاعرَ. وقبلَ الحربِ، كان رسَّامو الكاريكاتير يرسمون هتلر بصورةِ فتاةٍ ذاتِ ملامح تهريجيةٍ ولها شاربٌ جديرٌ بممثِّل سينمائي هزلي. وكانت التعليقات عليها تقول: « إنه يسمعُ أصواتاً» ….‏‏‏‏‏

• مقطع من ترجمة أسامة منزلجي لرواية جان جينيه «شعائر الجنازة.‏‏‏‏‏