في ذكرى رحيله.. «هما مين.. واحنا مين؟»
إيمان الأحمد إيمان الأحمد

في ذكرى رحيله.. «هما مين.. واحنا مين؟»

يظل النقاش مستمراً حول جدل العلاقة بين الثقافي والسياسي، حيث نجد من يفصل بشكل تعسفي بين المنتج الثقافي -الفني وبين السياسي، ونجد من يحول المنتج الثقافي إلى مجرد شعار سياسي، الأول يفقد المنتج الثقافي محتواه، والثاني يغيب جانبه الجمالي مع العلم أنه كليهما شرط ضروري لوجوده.

بين هذين الموقفين، يبرز الموقف الآخر الموضوعي الذي يجمع بين مكونات العملية الإبداعية كلها، وهو الشرط اللازم توفره في المنتج الثقافي من حيث الشكل والمحتوى، وكنموذج على الموقف الأخير يبرز الفنان الشيخ إمام، الذي مرت في 6 حزيران ذكرى رحيله، والذي قدم فناً حقيقياً وشكل ظاهرة متميزة في تواصله مع البسطاء والمهمشين من أبناء المجتمع المصري أولاً والعربي تالياً، وتجاوز الزمن والأحداث التي أنتجته وبعثت صوته، فأغانيه لم تنته، بل ظلت وستظل تنبعث مرات ومرات.

قام الشيخ إمام بإنجاز معادلة صعبة، استطاع من خلالها الوصول إلى قلوب الناس،  والتواصل معهم وجعلهم يحرصون على متابعة فنه وأغانيه.

بدأت العلاقة بين الثنائي، الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، بسؤال «نجم» للشيخ إمام لماذا لا تلحن؟ فأجابه: «لم أجد كلاماً يشجعني”، وتأسست بعدها شراكة دامت سنوات طويلة، عملا خلالها على تطوير الأغنية السياسية وتصديرها بصبغة شعبية، وعبرت الأغاني التي أنتجاها عن هموم الناس والفقراء وكانت لسان حال شرائح اجتماعية واسعة من الشعب المصري. 

كانت الأغنيات التي كتبها له نجم هي صوت الحالمين بعالم يخلو من الظلم والقهر والفساد، صوت عبر عن الفقراء والمهمشين، عن آلامهم وآمالهم. بإحساس صادق عميق، حمل صوته طاقة وحيوية امتلأت أملاً ، متنبئاً بإمكانية الخلاص من البؤس الاجتماعي الذي جاء من أعماقه . 

بدأت ظاهرة الشيخ إمام تتشكل مع أول أغانيه السياسية التي كتبها نجم مثل «شيلني وأشيلك»، و«يعيش أهل بلدي وغيرهم مفيش». كان الثنائي يجوبان قرى ونجوع ومدن مصر والمحافل العمالية وتجولا في أماكن كثيرة وسط الفلاحين، استطاعا رؤية مصر ومعرفة شعبها عن قرب، مصر الحقيقية، فكانت تجربة هامة استفاد منها كثيراً في تطوير فكرهما وفنهما، إضافة إلى القراءة المستمرة، فقد كان أحمد فؤاد نجم كثير القراءة، «أما الشيخ إمام فهو متنوع جداً كملحن، تعلم المقامات الموسيقية، وأضاف للموسيقى الكثير حيث جمع ما بين الأشكال القديمة كلها، التي تربى عليها، كموسيقا الطقاطيق، والديالوج مابين المغني والكورس، بالإضافة إلى مدرسة تعبيرية، تمسك بها كسيد درويش عندما جمع بين الأدوار القديمة والتعبير في الغناء على سبيل المثال بلادي بلادي وقوم يا مصري» حسب ما تؤكده عزة بلبع- فنانة كانت زوجة نجم ورفيقة درب الثنائي نجم/ إمام. استطاع الشيخ إمام «الجمع بين التعبير واستخدام الأشكال المسرحية في الغناء، والطرب الذي يشمل كل الأشكال الغنائية القديمة». كان بإمكانه التعبير عن الدراما من خلال الألحان. غنى في الشوارع والقرى وفي النقابات العمالية.

لا يستطيع أحد أن ينفي الشجاعة التي تميز بها الشيخ إمام، وتعرض للسجن والاعتقال والملاحقة وفي كل مرة كانت الأحداث تكشف عن حجم الصلابة التي يكتنزها في داخله، رغم الظروف الصعبة التي يمكن ان تدفع الإنسان للمساومة والاتفاق والخنوع، وكلما تكررت نوبات السجن والاعتقال بوتيرة عالية كان الشيخ  يزداد صلابة وقوة، عبر عنها بفنه ومواقفه. ولم يكن في إمكان أية قوة أن توقف تدفقه الهادر، فقد زاده الاعتقال والحبس إبداعاً وتدفقاً. ويشعر من يسمع أغنية (أنا رحت القلعة وشفت ياسين) أنه يغني بقلبه وروحه، وليس بحنجرته. 

تلاحقت أغاني السخرية لتؤرخ للأحداث السياسية اليومية، حتى زيارات رؤساء الدول، يزور الرئيس الأميركي نيكسون مصر فيستقبله الطلاب بأغنية يجهزها الشيخ في غضون ساعات، يفد على مصر الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان داعيا للانفتاح واقتصاد السوق فيحييه إمام بأغنية تجعل من الرئيس الفرنسي أضحوكة.

يؤكد أحمد فؤاد نجم في معرض ذكرياته، عن تلك المرحلة وعن موقف الثنائي من المشروع الصهيوني: «أن من يستطيع أن يغضب في ذلك الوقت كل هذا الغضب، لا يستمد قوته من فراغ، كنا نغضب لأن جذورنا في الأرض ونعرف أنها سحابة صيف وتعدي، إن مشروع إسرائيل هذا سحابة صيف وستنتهي إلى لا شيء، إن هذا المشروع محكوم عليه بالفشل».

حول طرائق تلحين الشيخ إمام وأدائه التعبيري يقول أحد الكتاب المصريين: «وجدت في ألحانه وأدائه، الأغنية التعبيرية الدرامية النابضة بالمعاناة، الزاخرة بالحيوية التي لا تتسكع حول التكرار الزخرفي للنغم، أو تتوقف بك عند الزوائد الطفيلية التي تكمل المقاطع لضرورة شكلية، بل تعبر عنك وتتطور بك، وتمضي معك إلى غاية واضحة، تنبع من كل خبرة حياتك، أو تعود بك إلى حياتك نفسها، تعمقها، وتوقظ فيها كوامن الأصالة والصدق الإنساني».

 

ما الذي يبقي تراث الشيخ إمام عيسى الفني الغني والمتنوع حياً وجاذباً عند الناس وعند المهتمين؟ وما الذي يدفع بالكثير من المهتمين والمطربين والفرق الموسيقية والغنائية العربية لإعادة تقديم أعماله؟ لم تكن مجرد رغبة ذات طابع أخلاقي أو أكاديمي في تخليد اسم الفنان أو تراثه الفني، إن السبب الحقيقي لذلك الاستمرار، بل ربما حتى الاتساع في الانتشار، بعد رحيله، بسيطاً للغاية، وهو أن الكثير من الموضوعات التي غنى لها الشيخ إمام استمرت تعيش معنا محتفظة بدرجة أهميتها نفسها، بل ربما زادت أهميتها ضمن أولويات القوى الفاعلة والصاعدة في الكثير من المجتمعات. إنه ظاهرة لها سماتها الفريدة، ترك خلفه أكثر من «350 أغنية»، وقدم فناً حقيقياً تجاوز فكرة الخطابة واللحظة السياسية الراهنة ووجعها، ورفض أفكار الهزيمة والاستسلام للواقع، وزرع الأمل في إمكانية المقاومة والانتصار. ورغم أن لحنه الأساسي لا يتغير بتغير الأداء، ولكن  في كل مرة يؤدي الشيخ إمام اللحن نفسه، بأداء جديد، يحس من يسمعه، أنه يسمعه لأول مرة، فهو يعيش اللحن من الداخل. ويؤديه كل مرة، وكأنه يؤديه لأول مرة.