خلدون بشارة خلدون بشارة

دار دار، زنكة زنكة، فرد فرد

ما للمستقبل بالتاريخ؟! وما للتغيير بالماضي؟! وما للبلدات القديمة بالأمل؟!

يبدو أنه وأخيراً، عرف الثائر والقامع على حد سواء أهمية المكان في حسم المعركة، أية معركة. وبرغم صعوبة تعريف ماهية المكان إلا أن المكان بمعناه المطلق كفضاء جغرافي قابل للتغيير، ومعناه كموقع نسبي بالنسبة لمواقع أخرى تجري فيها أحداث أخرى، والمكان كنتاج لعلاقات الإنتاج وإعادة الإنتاج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أصبحت أكثر وضوحاً في بلدان الجوار.

هنا في فلسطين، يبدو أن الحكمة من أفواه المجانين وغير المجانين لم تصل بعد إلى الشعب بشكل عام والشباب بشكل خاص. فبرغم ارتباط الأرض ارتباطاً وثيقاً وعملياً بالحياة الفلسطينية، حتى أنها اكتسبت أبعاداً أخرى غير المذكورة آنفاً -الأرض قبل العَرْض مثلاً- إلا أن الأرض، والمكان، والفضاء، والحيّز الذي يدور حوله الصراع/ الصراعات، لم ولا يلعب دوراً أساسياً في التغيير الذي يطمح إليه رواد وشباب التغيير.

وحتى لا يضيع جهد الشباب هباء، فإن هناك ضرورة لإعادة فهم للمكان الذي لا بد للثائر من السيطرة عليه (تحريره) كسيطرته على بَدَنِه (تحريره)، وبطرق مختلفة، حتى يتمكن من عمل التغيير، وبغضّ النظر عن اتجاه هذا التغيير. فلا يستطيع الشباب مثلاً اعتبار مواقع افتراضية وفضاءات اجتماعية مثل الـ Facebook و TwitterوYouTubeبديلاً عن المواقع «الحقيقية» التي يجري فيها التغيير. وهذا بالضرورة لا ينفي أهمية المواقع البديلة كأدوات لتحريك وتوجيه الرأي العام باتجاه الشارع.

كذلك لا يستطيع الشباب افتراض أن المكان هو فضاء مطلق قابل للعجن والخبز والتغيير، دون النظر إلى العلاقات التي أنتجته والزمن الذي انبثق فيه. وهذا بالضرورة يعني استغلال متواصل لجميع  الفرص واللعب على/في المكان/ الفضاء، حتى تحين الفرصة لزمن يسمح بالتغيير وقلب الضعف الذي أنتجه الزمن إلى طاقة مَكانية تقف أمام القامع - بغض النظر عن ماهيته.

وهذا المكان متعدد، فهو مشهدنا الطبيعي، ومدننا، وقرانا، وبلداتنا القديمة، وسهولنا وجبالنا التي تكسوها أو لا تكسوها المستوطنات، وهي المياه التي وعدنا بها تحت الأرض وفوق الأرض، وهي مواقع التسكع، والتلصص، والتغيير، والتعبير، والتهور، والتروي، والثورة، والنعومة، والخشونة، ومواقع الحب والحياة، وهي أيضاً مواطن العقل والجنون.

مشروع مركز رواق إعادة إحياء خمسين بلدة قديمة في فلسطين؛ هو محاولة في اتجاه إعادة اللُّحمة لفلسطين المشرذمة -بكل معانيها- من خلال خلق الظروف الملائمة للتغيير، وخلق حيّز متجدد لمجتمع يعيد صياغة علاقاته ببعض وبأرضه. البلدات القديمة هي مبعث الأمل الذي يُذكّر بزمن جميل، يبشّر بغد أفضل لشباب يحلم بأمور ليست معقدة، ولكنها ليست بسيطة في الوقت نفسه. البلدات القديمة كذلك تدلل على إمكانيات أجيالٍ سابقة لعمل الممكن في ظل ظروف قد تكون كانت أصعب من ظروفنا. وهذه الدلالات نحن الأولى باستقاء العبر والتعلم منها.

الفرد لا يمشي أو يستقر أو يهرول في المكان/ البيت/ الدار/ الزنكة لتأكيد وجوده فحسب، بل هي لغة يخاطب فيها الآخر ويصل معه إلى نقاط اتفاق لا مكتوبة ولا منطوقة، في لغة تفهمها الأجسام الحية وغير الحية، التي نعبّر فيها وتعبر فينا، ونترك فيها أثراً غير مرئي، وتترك فينا انطباعات قد تساعدنا على التعبير والتغيير.