غياث رمزي الجرف غياث رمزي الجرف

عصا الطاعة.. انكسرت

ثقافة ترغب عن الأخرى

بين الثقافة الحقيقية التي تحظى بالمسؤولية والصدقية والمصداقية والفاعلية، والتي تحمل هموم الإنسان والأمة، وتنهض بقضاياهما، وتنبض بروحهما الوثابة، وتبحث عن سبب خلاصهما.. وبين القيود والمصادرة والتسلط والإرهاب الفكري والمنطق التكفيري.. علاقة تعارض وتباين، كل منهما يرغب عن الآخر، ويتبرأ منه.. فكلما اتسع نطاق التشدد والتعصب والتسلط والانغلاق.. ضاق الفعل الثقافي، وقل العمل الإبداعي، إن لم نقل أكثر من ذلك، والعكس صحيح.

إن الثقافة الحقيقة، والمشار إليها أعلاه، لا تنمو وتزدهر ولا تعطي أكلها إلا في مناخات الحرية والديمقراطية واحترام الإنسان وحقوقه في مختلف المحافل والميادين والمجالات... فـ(الثقافة) الظلامية، المتعصبة، التكفيرية، التسلطية، السكونية، والمغلقة التي لا تعترف بوجود الآخر ولا تقر بحقه في الحياة والرأي المخالف.. وكذلك (الثقافة) السلعية ـ التجارية، والتقريظية الجوفاء والمداهنة.. هي (ثقافة) سطحية تسطيحية وتدميرية على الصعد كافة تجعلنا أشلاء متناثرة على قارعة الحياة والحضارة...

الثقافة التنويرية، وثقافة المقاومة الشاملة، وثقافة المساواة والعدالة، التي هي فوق أية ثقافة أخرى، وثقافة الحوار الذي يعترف حقاً وحقيقة بوجود الآخر، ويرفض بشكل مطلق الحجر على هذا الآخر المخالف، و(إعدام) أفكاره وآرائه ووجهات نظره.. هذه الثقافة التي تقوم على دعائم التنوير والمقاومة والمساواة والعدل والحوار.. هي وحدها الثقافة التي تكفل بناء مجتمع عادل حر، ديمقراطي ومتعدد... مجتمع حضاري، إنساني يليق بالحياة الكريمة وبإنسانية الإنسان ومفردات وجوده..

 

انتفاضة على (الفضيلة)؟

يرى المفكر العربي المعاصر والمثقف (الملتزم) الدكتور فؤاد زكريا أن هناك مرضاً عربياً مزمناً اسمه (الطاعة)، الفضيلة التي تبدو في نظر الثقافة العربية صالحة لكل زمان ومكان. فالطاعة في تراثنا العربي كانت، وما زالت، هي فضيلة الفضائل، وهي الضمان الأكبر للتماسك والاستقرار في المجتمع (؟)، وهي الدعامة الأساسية لاستتباب الهدوء والسلام بين الأفراد بعضهم مع بعض، وبين جميع المؤسسات التي ينتمي إليها الإنسان العربي خلال مراحل حياته المختلفة. ويقول هذا المفكر المسكون بهموم الوطن والمواطن: إذا كانت هناك أسباب معنوية لتخلفنا وتراجعنا واستسلامنا أمام التحديات، فإن الطاعة تأتي على رأس هذه الأسباب. إنها، بغير تحفظ، رذيلتنا الأولى، وفيها تتبلور سائر عيوبنا ونقائصنا.

لا مكان للريبة والشك في أن تنشئة الإنسان العربي ترتكز، في مراحلها المختلفة، على تثبيت هذه القيمة الأخلاقية والاجتماعية، وغرسها بطريقة راسخة حتى تصبح، في النهاية، جزءاً لا يتجزأ من تركيبه المعنوي، فالعلاقة الزوجية أساسها (الطاعة): طاعة المرأة لزوجها. والتراث الشعبي والأدبيات والتقاليد تؤكد فضيلة الزوجة (المطيعة)، والأسرة تعمل، منذ سنوات العمر الأولى، على أن تكون العلاقة بين الآباء والأبناء هي علاقة (طاعة). وحين يدخل الطفل العربي إلى المدرسة يجد، على وجه الجملة، نظاماً تعليمياً يقوم، بدءاً من الروضة حتى الدراسات العليا في الجامعة، على مفهوم (الطاعة). والمؤسسات التعليمية نفسها تعمل على توطين فيروس (الطاعة) في خلايا الأدمغة الفتية الغضة، وتعاقب عموماً كل من يبدي رأياً ناقداً، أو مخالفاً أو.. والباحث المدقق يجد (فصاماً) بين كتاباتنا الداعية إلى تعليم إبداعي مبتكر، وبين واقعنا التعليمي المعيش (؟).

وحين ينتقل الشاب العربي إلى مرحلة الحياة العملية يجد علاقات العمل مبنية، في الأساس، على مبدأ الطاعة. فعلاقته بالمسؤول هي علاقة (رئيس بمرؤوس) ـ وهذا التعبير يحمل في ذاته دلالاته بليغة (...) ومن المعروف أن كلمة (الرئيس) مشتقة من (الرأس)، وبناء على ذلك فإن (أفضل) أنواع العاملين هو (الموظف المطيع) الذي يستجيب للرؤساء (أي يحني رأسه الصغير أمام الرؤوس الكبيرة) ولا يناقشهم. وعن طريق هذه الطاعة (الانحناء) ينال هذا الموظف الرضا، ويغدو أهلاً للارتقاء في المناصب. وبالمقابل فإن (أسوأ) أنواع العاملين هو مَنْ يكون ناقداً، متمرداً (غير مطيع).

 

وماذا بعد..؟

لقد أدرك الإنسان العربي، على وجه الإجمال، أنه لا بد له من الانتفاض على هذه (الفضيلة)، فحين (يطيع) ويستسلم لهذا المبدأ، ويخضع له يفقد ماهيته وكينونته ونفسه وفرديته، ويصير مثقلاً بالآخرين، يصير إمعة، فيجمد عقله، وينعدم التجديد فيه، وتضيع قدراته وملكاته وطاقاته؟؟ فالإنسان الذي يفهم قيمته الكونية، ومكانته السامية بين سائر الكائنات الحية، والذي يعرف معنى وجوده لهو ذلك الإنسان الذي يعلن، بلا هوادة، في اللحظات الحاسمة من حياته: لن أضعَ، ما حييتُ، رأسي بين الرؤوس، ولن أقول، ما دمت على قيد الحياة، يا قطاع الرؤوس.

غزة والسقوط الأخلاقي

منذ أكثر من نصف قرن من الزمن تضمنت مقدمة ميثاق الأمم المتحدة تعهداً أممياً إنسانياً وجدانياً مؤثراً: «نحن شعوب الأمم المتحدة.. قد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي ـ خلال جيل واحد ـ جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف.. وأن نمارس التسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار.. وأن نوحد قوانا لكي نحافظ على السلم والأمن الدوليين...»

وماذا بعد..؟ ما الذي تحقق من هذا التعهد الأممي الجليل منذ أكثر من ستين عاماً حتى وقتنا الراهن؟!

شريعة الغاب والحروب وويلاتها مستمرة، والحزن يغطي وجه المعمورة واللاسلم، واللاأمن، واللاتسامح، والقلق الوجودي، والخوف، والمعاناة، والألم تلتهم ـ كما تلتهم النار الهشيم ـ أكثر بقاع العالم، والجوع والفقر والحرمان، والقمع والإرهاب، والتعصب والإذلال، والمصادرة والصراع، والحصار، والاحتلال والعدوان.. من السمات الثابتة والحاسمة لكرتنا الأرضية.

إن ما جرى، ويجري على امتداد الجغرافيا الكونية، ولا سيما في القطاع العربي الفلسطيني الغزاوي المستباح بشراً وبراً وجواً وبحراً.. يعطي ـ فيما يعطي ـ الدليل الواضح الفاضح على صحة ما تقدم ذكره آنفاً، ويكشف عن الوجه العنصري والنازي للكيان الصهيوني، كما يكشف عن الوجه اللاأخلاقي واللاإنساني لدعاة حقوق الإنسان والقانون الدولي والحرية والديمقراطية والعدالة والسلام.. ويبين بوضوح سقوط الغرب الرسمي في الامتحان الحضاري عندما يساوي بين الضحية والجلاد، بل عندما يحمل الضحية مسؤولية العدوان والمجازر والمذابح والإبادة..

 

وإلى ذلك كله فقد أسقط ما جرى، ويجري ورقة التوت عن المثقفين «المارنزيين» وعن النخب و«الأطراف» المتصهينة الذين يعشقون رائحة الورق الأخضر الأمريكي، ويطربون لها على الصعيدين العربي والعالمي...