لغات الشرق الساحرة..!

لغات الشرق الساحرة..!

اللغة من أكثر أدوات التجريد التي استخدمها الإنسان في التعبير والتواصل في المجتمع ومع الشعوب الأخرى، سواء برموزها الصوتية أم برموزها الكتابية، وهي كالكائن الحي تنمو وتكبر، ونشأت وتطورت مع الإنسان منذ وجوده ووعيه لهذا الوجود!

تباينت آراء العلماء في نشأة اللغة، فالبعض اعتبرها صوتياً محاكاة لأصوات الطبيعة، والبعض اعتبرها ألفاظاً توافق الناس واصطلحوا عليها وغيرها، وقد مرت بمراحل متعددة بدلالاتها المعنوية، وبشكلها الكتابي بدءاً من المرحلة التصويرية إلى المسمارية إلى المقطعية إلى الأبجدية حيث تعتبر أبجدية رأس شمرا في أوغاريت في سورية من أقدم الأبجديات المعروفة إلى الآن.

الوثائق المكتوبة تعتبر أهم مصادر البحث التاريخي، ليس لما تحويه من معلومات ودلالات فقط، وإنما بدراسة بنيتها اللغوية من خلال حروفها ومفرداتها وجملها وتراكيبها وأساليبها، يمكننا الكشف عن الكثير من الأسرار التاريخية ومراحل تطور المجتمعات البشرية وتراكم الحضارات وتلاقحها، لأنها ترافقت في نشأتها مع تكون هذه المجتمعات ووعيها لذاتها ووجودها، وما يهمنا أكثر في اللغة دورها في التعبير والتواصل داخل المجتمع وتوحيده، وفي العلاقات مع المجتمعات الأخرى والشعوب في المنطقة لأنه غالباً ما تسود لغة القوى والمجتمعات المهيمنة، وقد مرت فترات سادت فيها الآرامية والسريانية والآشورية والفارسية والعربية.

التراكم الحضاري اللغوي في الشرق

لن نوغل كثيراً في التاريخ القديم ولا في التفاصيل، فبعد تحول الكتابة التصويرية في وادي النيل وبلاد ما بين النهرين إلى الكتابة المقطعية، ثمّ الأبجدية، تعتبر الأساطير السومرية والبابلية من أقدم النصوص الكتابية، وما تزال آثار لغتها موجودة في لغات منطقة الشرق نطقاً وكتابةً وعلى سبيل المثال وجود حرف (الحاء) وغيره من الحروف فيها، وهي غير موجود في اللغات الأوربية مثلاً، وكذلك وجود حرف(التاء الصفيرية) المستخدم بوادي الفرات في سورية، والذي تبين بعض الآراء أن جذره سومري، كما أن مئات بل آلاف المفردات المشتركة بين لغات شعوب المنطقة، ليس في لغاتها العامية فقط كالمسميات ودلالاتها (كفردوس وديباج وسندس وآدم وإبراهيم وجهنم وجحيم..) وغيرها، وهناك ألفاظ فارسية وآرامية، وسريانية وكردية وتركية موجودة في اللغة العربية، وحتى في القرآن وتسمى ألفاظاً أعجمية، وبعضها من كثرة استخدامها باتت تسمى معرّبة، ومنها ما هو مستمد من الأساطير والشعر. كما يوجد مئات الألفاظ العربية موجودة في اللغات الفارسية والكردية والتركية والهندية والباكستانية والأفغانية، ليس لفظاً فقط وإنما كتابةً فما زالت باكستان وإيران وبنغلاديش ومقاطعات في الهند تستخدم الحرف العربي، ولم يقف هذا التلاقح عند الألفاظ وكتابة الحرف وإنما طريقة لفظه وتموضعه بالتقديم والتأخير والاستبدال والإشباع والتفخيم، وأيضاً في مفرداتها السياسية والاقتصادية والدينية والقانونية والقيم الدينية والإنسانية كالمحبة والسلام والعمل، وهذا ما تبينه آلاف الرُّقَم المكتشفة والمؤلفات التي لا تحوي الأساطير وإنما القوانين كقوانين حمورابي، والاتفاقات التجارية والمعاملات والتبادلات وغيرها، بغض النظر عن التوافق والقدم التاريخي، واستمر ذلك كله في اللغات الحالية لشعوب المنطقة وما زالت الدراسات اللغوية والمقارنة كل يومٍ تكشف عن جديد. ومن ذلك ما وجد على رقمٍ سوري: «حطم سيفك وتناول معولك واتبعني، لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض، أنت سوري وسورية مركز الأرض»

كانت هذه رسالة من الإله السوري بعل قبل 5000 سنة قبل الميلاد.

كما أنّ استخدام الجمل القصيرة والتراكيب والتكرار والاختصار، واستخدام المحسنات البديعية من تشبيه واستعارة وكناية وجناس وطباق وسجع هو الأسلوب الغالب فيها، وهو ما نراه أيضاً حتى في الأناشيد والكتب الدينية المقدسة، كما في نشيد الإنشاد في التوراة مثلاً، وفي الأناشيد الكنسية المسيحية، وفي القرآن تعتبر الفاصلة الصغرى والفاصلة الكبرى من ميزات القراءة والتجويد. كما في سورة الرحمن ( فبأي آلاء ربكما تُكذّبان) التي تكررت في السورة31 مرة.

اللغة كعامل توحيد وتجميع

كما نوهنا في البداية أن أهمية اللغة تكمن في تحقيق التعبير والتواصل، وهي (سِمةٌ أساسية من سمات الهوية الوطنية) لا يمكن التخلي عنها أو منعها لأنها جزء من حقّ تقرير المصير وتكفله القوانين والدساتير، وهي أيضاً عامل توحيد وتجميع في داخل المجتمعات ومع شعوب المنطقة. ففي الجزيرة العربية كانت التجمعات القبلية المتفرقة هي السائدة تاريخياً في مرحلة الرعي مع وجود بعض الحواضر المدنية كمراكز حرفية وتجارية، وأيضاً يجري فيها التبادل والتلاقح والتمازج اللغوي كما يجري في (مكة وسوق عكاظ) حيث كان الشعراء والخطباء يتسابقون لعرض إبداعاتهم اللغوية، ويجري تعليق المميز منها على أستار الكعبة وفي داخلها، وسميت المعلقات، وكان لكل قبيلة معتقداتها ولهجتها المميزة، ولتطور الظروف الاقتصادية الاجتماعية واتساع العلاقات التجارية أثر كبير في ضرورة توحيد هذه القبائل، ولتوحيد هذه القبائل لابد من توحيد المعتقد واللغة واللهجة، وأصبحت لهجة قريش هي السائدة في القرآن، وبقيت بقية اللهجات موجودة بنسبٍ متفاوتة، وامتد تأثير اللغة العربية، لفظاً وأسلوباً إلى لغات شعوب المنطقة، كما دخلتها أيضاً مفردات وأساليب من اللغات الأخرى، ولم يقتصر ذلك على المفردات والأسلوب بل القيم الإنسانية والمعتقدات، وتجلى ذلك كله في العديد من النصوص الأدبية ونذكر هنا رسالة الغفران لأبي علاء المعري التي تصور الجحيم المستوحى من الأساطير وتعبر عن أجواء الشرق بكل ما فيه من خيرٍ وشرٍّ، بل وامتد ذلك إلى أوربا في جحيم دانتي..

 

سِحرُ الشرق!

وأخيراً، تعتبر اللغة من التراث اللامادي الذي يجب الاهتمام به، وإذا كانت كثير من اللغات العالمية قد انقرضت، فإن غالبية لغات الشرق بقيت حية، في سورية مثلاً، ما زالت الآرامية لغة السيد المسيح موجودة في بعض قرى ريف دمشق كمعلولا وجبعدين، وفي الجزيرة السورية، بفيت اللغة الكردية بلهجاتها المتعددة الكرمنجية وغيرها، وكذلك اللغات الآشورية والسريانية والكلدانية...  

كما تجمعها صفات هامة رغم تنوعها وتعددها، كالسلاسة والغنائية وقلة النبر والجرس الموسيقي ونجد ذلك في كتابات القدماء والمعاصرين، وسبب ذلك هو التعدد الكبير في بحور الشعر ومقامات الغناء وتمازجها وتلاقحها. وإنّ المهتم والمتتبع للدراسات اللغوية القديمة والحالية والعلاقات والمشتركات بين لغات منطقة الشرق العظيم سيكتشف عمق العلاقات والروابط التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحية بين هذه الشعوب، ناهيك أنّ معاناتها الحالية في هذه الجوانب شبه واحدة، وإن تمايزت هنا أو هناك فالفوارق قليلة، وهذا يعني مصيرها واحد لذا يجب تعميق هذه العلاقات والروابط القديمة والحالية مما يمنحها  قوةً لمواجهة التحديات، لذا بات من الضروري تعليم اللغة الآرامية والسريانية والآشورية والكردية وتدريسها، لأنها جزء من تراثنا الوطني، ويزيدها غنىً وجمالاً فوق غناها وجمالها، وكما قال بعل (فلندع السيف ولنحمل المعول ولنزرع السلام والمحبة في كبدِ الأرض).