أحمد عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف

للكبار فوق سن الثلاثين

  يحدث أنني لا أستطيع السير في العالم ملقياً أشياءً ومبدّلاً أشياءً بموديلها الجديد لمجرد أن أحداً خطر بباله أن يضيف خاصية أو يعدّل قليلاً .

منذ فترة ليست ببعيدة، كنت أنا وزوجتي نغسل حفاضات أطفالنا ونعلّقها على الحبل بجانب ملابس أخرى، كنا نكويها ونطويها ونجهزها ليعيدوا استخدامها مجدداً .

وهم، أطفالنا، ما إن كبروا وأصبح لديهم أطفال حتى صاروا يرمون كل شيء في القمامة، بما في ذلك الحفاضات .

لقد استسلموا بلا وجع ضمير للاستهلاك! نعم، أعرف ذلك. فجيلنا يصعب عليه دائماً رمي شيء. ولا حتى الأشياء المستخدمة كانت تبدو لنا قديمة! وهكذا كنا نسير في الشوارع وفي جيبنا نحتفظ بمخاطنا في منديل من القماش .

لا! لا أقول إن ذلك كان أفضل. ما أقوله إنني أشرد في لحظة ما، أسقط من العالم والآن لا أدري من أين أسير. وأغلب الظن أنني الآن على ما يرام، هذا لا جدال فيه. ما يحدث أنني لا أستطيع تبديل جهاز الموسيقا مرة كل عام، ولا التليفون المحمول كل ثلاثة أشهر، ولا شاشة الكمبيوتر في كل عيد كريسماس.

أحتفظ بالأكواب المكسورة !

أغسل الجوانتيات اللاتكس المصنوعة للاستخدام لمرة واحدة !

تتعايش أطقم السفرة البلاستكية مع أطقم من فولاذ لا يؤكسد في درج النيش !

يحدث أنني جئت من زمن كانت فيه الأشياء تُشترى لحياة كاملة !

بل أكثر من ذلك، تُشترى لتورث لأجيال تأتي بعد ذلك !

الناس كانت ترث ساعات الحائط، أطقم الكؤوس، أدوات السفرة، أواني الفخار .

وحدث أنه في زواجنا غير الطويل جداً، اشترينا بوتجازات أكثر من التي كانت في حي طفولتي وغيّرنا الثلاجة ثلاث مرات .

إنهم يضايقوننا! لقد اكتشفت ذلك! يفعلونها عمداً! كل شيء يُكسر، يستنفد، يؤكسد، يتمزق أو يستهلك في وقت ضئيل حتى نغيّره. لا شيء يمكن تصليحه، فبالنسبة للمصنع صار قديماً .

أين الإسكافي الذي كان يضيف نصف نعل لأحذية «نايك» الرياضية؟

هل رأى أحدكم المنجد الذي ينجد المراتب بيتاً وراء بيت؟

من يُصلح السكاكين الكهربائية؟ عامل السكاكين أم الكهربائي؟

كل شيء يُرمى، كل شيء يستهلك، وأثناء ذلك، ننتج قمامة أكثر وأكثر .

بالأمس قرأت أننا أنتجنا في الأربعين سنة الأخيرة قمامة أكثر مما أنتجته البشرية في تاريخها .

لن يصدق ذلك من كان عمره أقل من الثلاثين: عندما كنت طفلاً لم يكن هناك جامع قمامة يمر ببيتنا !

أقسم على ذلك، وأنا عمري أقل من  ...

كل ما كنا نستخدمه كان عضوياً وكان مآله لحظيرة الدجاج والبط والأرانب (ولا أتحدث عن القرن الثامن عشر).

لم يكن هناك البلاستيك والنايلون، والمطاط كنا نراه فقط في إطارات العربات والتي لم تكن تدور كنا نحرقها في عيد سان خوان .

والمستهلكات التي لم تكن تأكلها الحيوانات، كانت تفيد كأسمدة أو كنا نحرقها. من هناك أنا قادم. ولم يكن ذلك أفضل. غير أنه ليس سهلاً على رجل فقير تربى على «احتفظ واحتفظ فذات يوم قد ينفعك في شيء»، أن يصير «اشتر وارم.. لقد جاء موديل جديد».

رأسي لا يحتمل كثيراً .

أقاربي الآن وأبناء أصدقائي لا يبدّلون فقط التليفون المحمول مرة كل أسبوع، بل الأرقام كذلك والبريد الإليكتروني وحتى العنوان الحقيقي .

أما أنا فقد أعدوني لأعيش بالرقم نفسه، المرأة نفسها و البيت نفسه و الاسم نفسه (ويا له من اسم لا يمكن تغييره). لقد ربوني لاحتفظ بكل شيء، كل شيء! ما ينفع وما لا ينفع. لأن الأشياء ذات يوم قد نعود لاستخدامها. هكذا صرنا مدينين لكل شيء .

نعم، أعرف ذلك، أعرف أن لدينا مشكلة كبيرة: أنهم لم يشرحوا لنا أبداً أي أشياء قد تنفع وأي أشياء لا. وبهدف الاحتفاظ بكل شيء (لأننا مطيعون) احتفظنا حتى بسُرة ابننا الأول، وسُنَّة الثاني، ومفارش حديقة الأطفال ولا أدري كيف لم نحتفظ بغوضهم الأول. كيف يريدون إذن أن أستوعب هؤلاء الناس الذين يتخلون عن تليفوناتهم المحمولة بعد أشهر قليلة من شرائها؟   

أيكون السبب أننا عندما نحصل على الأشياء بسهولة لا نقدّرها وتصبح قابلة للرمي بالسهولة نفسها التي بها حصلنا عليها؟

في بيتنا كان لدينا أثاث بأربعة أدراج. كان الدرج الأول للمفارش والفوط، والثاني لأدوات السفرة والثالث والرابع لكل ما هو ليس مفرشاً ولا أداة سفرة. وكنا نحتفظ.. بماذا كنا نحتفظ! كنا نحتفظ بكل شيء! بغطيان المرطبات.. لماذا؟ لأننا كنا نستخدمها لننظف بها الأحذية حيث نضعها أمام الباب لنزيل بها الطين. وبتطبيقها وتعليقها على خرز كانت تتحول لستائر للبارات. وعند انتهاء الموسم الدراسي كنا ننزع عنها الفلين ونهرسها بالمطرقة ونسمّرها في قطعة خشبية لنصنع منها أدوات لحفل نهاية العام الدراسي. كنا نحتفظ بكل شيء !

عندما اختبر العالمُ العقلَ لاختراع ولاعات كانوا يرمونها عند انتهاء دورتها، اخترعنا نحن إعادة ملء الولاعات المستهلكة. وماكينات الجيليت -حتى المكسورة لمنتصفها- كنا نحوّلها لبرايات خلال الفصل الدراسي. وكانت أدراجنا تحتفظ بفتاحات علب الساردين والبيف، فربما تأتي علبة دون فتاحتها! والبطاريات! والبطاريات الأولى لسبيكا كانت تنتقل من الثلاجة إلى سقف البيت. لأننا لم نكن نعرف جيداً إن كانت تحتاج إلى درجة حرارة باردة أم مرتفعة لتعيش فترة أطول. ولم نكن نستسلم لانتهاء حياتها المفيد، ولم نكن نستطيع أن نصدق أن هناك شيئاً من الممكن أن يعيش أقل من الياسمين.

وكنا نحتفظ بورق الشوكولاتة والسجائر الفضي لنصنع منه ألعاباً للكريسماس وأوراق التقويم لنصنع لوحات، وقطّارات الدواء فربما يحضرون ذات يوم دواءً دون قطارة، وكنا نحتفظ بعلب الأحذية التي صارت أول ألبوم للصور وأوراق الكوتشينة حتى لو نقصها ورقة حيث كنا نسجّل بأيدينا على ورقة رقماً  يقول «هذه رقم 4».

الأدراج كانت تحتفظ بقطع مشابك الغسيل اليسرى والخطاف المعدني، ومع مرور الوقت كانت تتبقى القطع اليمنى التي ينتظرها النصف الثاني لتصير مرة أخرى مشبكاً  كاملاً .

أنا أعرف ما كان يحدث: كان من الصعب علينا جداً أن نعلن موت شيء من أشيائنا. بينما الأجيال الجديدة اليوم تقرر «قتلها» بمجرد أن تبدو بلا فائدة، كانت تلك أزمنة عدم إعلان موت أحد: ولا حتى والت ديزني !

وعندما كنا نشتري الآيس كريم في أكواب ويقولون لنا: «كلوا الآيس كريم وارموا الكوب»، كنا نقول حاضر، لكن، من ذا الذي يرمي الكوب! كنا نضعها لتحيا في رف الأكواب والكؤوس. وعلب البسلة والخوخ كانت تتحول لقصريات زرع والتليفونات. والزجاجات البلاستكية الأولى كانت تتحول لزينات ذات جمال مشكوك فيه. وكراتين البيض صارت خانات للألوان المائية،  وغطيان الزجاجات أصبحت مطفآت سجائر، وعلب البيرة الأولى صارت علباً للأقلام، أما  غطيانها فكانت تنتظر العثور على زجاجة .

وأموت كيلا أقيم توازناً بين القيم التي بطلت والتي لا نزال نحتفظ بها. آه! لن أفعل ذلك! أموت لأقول إن الأدوات الكهربائية ليست وحدها التي يمكن نبذها؛ بل أيضاً الزواج وحتى الصداقة .

غير أنني لن أقترف خطيئة المقارنة بين الأشياء والأشخاص. أجز على أسناني كيلا أتحدث عن الهوية التي تضيع، وعن الذاكرة الجمعية التي نلقي بها، وعن الماضي الزائل. لن أفعل ذلك. لن أخلط الموضوعات ببعضها، لن أقول إنهم جعلوا من الغث سميناً ومن السمين غثاً. لن أقول إنهم يعلنون موت العجائز بمجرد ما تبدأ وظائفهم في التراجع، وإن الأزواج يتبدلون بموديلات أحدث، وإن الأشخاص الذين ينقصهم وظيفة ما يتعاملون معهم بتفرقة أو أنهم يقدرون أكثر أصحاب الجمال والبريق والسحر .

هذه فقط كتابة عن الحفاضات والتليفونات المحمولة. وعلى العكس، لو خلطنا الأشياء ببعضها،  قد يتحتم عليّ أن أسلّم نفسي لـ«الساحرة» كجزء من المبلغ المدفوع من جانب سيدة تتمتع بأوبشن جديد وأقل وزناً. لكنني بطيء حتى أنقل هذا العالم من وضعه الجديد. وأغامر إن وجدت الساحرة تتربح من ورائي عندما أصير المسلَّم إليها .

 

■ عن «أخبار الأدب»