د.أحمد الخميسي د.أحمد الخميسي

التعريب .. خطوتان للأمام

لدي الروس مثل يقول: «إذا عشقت أعشق ملكة وإذا سرقت اسرق مليوناً»، وإن أنت ترجمت المثل إلى ما يطابقه في المعنى عندنا فستقول: «إن عشقت اعشق قمراً وإن سرقت اسرق جملاً»، وبذلك ترتكب خطأ فاحشاً، لأن الترجمة تقتضي أن تنقل معايير ذلك المجتمع الآخر التي يقيس بها الثروة وهي الأموال وليس الجمال والبعير، وبهذا الخطأ تكون قد تجاوزت الترجمة إلى التعريب أي إلى التأليف تقريباً.

 

 وقد سبقت الترجمة مرحلة طويلة من التعريب أطلق فيها المترجمون المعربون الحرية لخيالهم وأقلامهم تعديلاً وإضافة وتحويراً وحذفاً. في ثلاثينات القرن الماضي- كان الناس يتشوقون لأدب مترجم-  فانتشرت سلسلة قصص من ترجمة حافظ نجيب، كان بطلها لص جرئ اسمه «جونسون» ولاقت رواجاً وبيعت بأعداد كبيرة. إلا أن حافظ نجيب وجد نفسه في مأزق عندما انتهت القصة الأخيرة بموت البطل «جونسون» مصدر رزق المعرب، ولم يطل التفكير فاخترع على الفور لذلك اللص ابناً مغامراً جريئاً مثل المرحوم والده، وراح نجيب ينشر من تأليفه سلسلة جديدة كأنما مترجمة بعنوان «ابن جونسون»!

يحكي نجيب محفوظ عن قراءاته الأدبية الأولى للأدب المترجم فيقول:«كانوا يترجمون مع تصرف، فيصح مثلاً أن يكتب المترجم في منتصف قصة فرنسية حديثا نبوياً شريفاً! وكنت حينها أصدق ذلك وأقول لنفسي:«يا سلام..الكاتب الفرنسي الكبير جي دي موباسان عارف الرسول ويستشهد به»! أما الكاتب المجيد طانيوس أفندي عبده (1869-1926)، وهو أديب وصحفي وروائي ومترجم لبناني من رعيل التنوير الأول في مصر، فقد ترجم عام1897 مسرحية «هاملت» لشكسبير لتقديمها على المسرح، وطبعها عام 1902، وعند عرض المسرحية استوقفه غضب الجمهور من الظلم الذي حاق بـ«هاملت»، فعدل نهاية المسرحية بحيث يواصل هاملت حياته ويرتقي العرش استجابة لنداء الجمهور بضرورة انتصار الحق وإنصاف المظلومين! وبذلك «التعريب» يمكن القول إن طانيوس عبده– وهو مجرد «أفندي»– شطب على نهاية مسرحية هاملت ومسح بكرامة «شكسبير بك» الأرض وألف للعمل نهاية أخرى. لهذا اعتبرت أن أول ترجمة معتمدة لهاملت هي تلك التي قام بها الشاعر خليل مطران لاحقاً. 

أما أشهر المعربين في الثقافة المصرية فهو مصطفى لطفي المنفلوطي الذي لم يكن يعرف حرفاً من اللغة الفرنسية ومع ذلك عرّب عشرات الأعمال الفرنسية!  وكان يأتي بمن يترجمون له النص الفرنسي ويقوم بصياغته بالعربية ويحشد للذوق الشرقي في الصياغة أكبر قدر ممكن من العصافير والبلابل والدموع وأوراق الخريف التي لا علاقة للمؤلف بها. هكذا صاغ رواية  «بول وفرجيني» وجعل عنوانها «الفضيلة»، أما رواية « تحت ظلال الزيزفون» فانقلبت عنده إلى «مجدولين» وهكذا. 

ومن أطرف وقائع التعريب أن مترجماً عربياً عكف على ترجمة كتاب لينين زعيم البلاشفة وعنوانه «خطوة للأمام .. خطوتان للخلف». وبحسبة بسيطة اتضح للمترجم أن الناتج النهائي عن تلك الخطوات هو تقهقر المجتمع!  ولا يعقل أن يكون لينين التقدمي داعية للتراجع!  الأرجح أن أحداً دس هذا العنوان الرجعي على لينين! هكذا قرر المترجم أن يصبح العنوان: «خطوتان للأمام .. خطوة للخلف»، وبه صدر الكتاب بعد حذف خطوة من التقهقر وإضافتها لصالح التقدم! وعندما انحسرت حركة التعريب لتفسح المجال للترجمة، ظهرت أسئلة أخرى جديدة وعويصة أيضاً: ماذا نترجم؟ كيف نترجم؟ لمن نترجم؟..