الوجه الثاني.. لوحة الهروب إلى القناع

وجوه النسوة العجائز مزينة بالأزرق كدلالات جمالية، وبعض الرجال يرسمون نقاطاً مزرقّة عند مفاصل الأصابع أو على طرف الإبهام، وامرأة تباهي بنقطة صغيرة على طرف الخد الأيمن مع خاتم صغير في الأنف قرب إحدى فتحتيه تدفن معها، وهذا ما كان من وشم الجمال الذي اعتقد البدو بروعته حتى سنوات قريبة، وهنا حمل أهلي من الجولان عناوين زينتهم حتى نهايتها وسط المدينة التي تباهي بمكياجها المتمدن.

في المدينة التي انفتحت على العالم بكل مقاييسه الجديدة تمر على مجموعة تغني وسط حديقة (السبكي)، وترسل إيحاءاتها الجديدة على أنغام (غيتار) يمزق هدوء الحديقة المعتاد الذي لا يقطعه سوى بعض صيحات الصغار من أبناء المنطقة، وفي أقصى الزاوية شابة ترتدي السواد بشعر متناثر وبقربها جداً فتى بسروال هابط وأساور غريبة يهمسان حكاية غواية.

اليوم وفي الطريق إلى الجريدة في حارة ضيقة مجاورة للجسر الأبيض نموذجان يمارسان الاقتراب سيراً على الأقدام بين السيارات المركونة بهمس يتواصل بين جسدين متلاصقين، والشاب الذي لا يخشى هبات البرد القارص بصدر مشعر وسروال ضيق قصير يحاول مد يدين مزينتين برسوم شيطانية، وأذنين بقرطين كخرزتي سبحة.

هنا.. في هذه المدينة أفلتت جماعات شابة قبل أقل من عقد طقوسها في الشوارع والشقق والغرف الجانبية، واستعاروا أسماء جديدة لانتمائهم، هنا يجلس (الميتال) و(الأومو)، وتبدأ رحلة التحدي في الشوارع والحدائق، وأدراج الجامعات، والحفلات السرية، وبعضهم تحدث عن الموت كأحد أشكال الخلاص، والجنس كمشروع حياة.

في حوارات جانبية نشرت بعضها نفى بعض من هؤلاء علاقتهم بالجنس الجماعي والكفر، وصاحت إحداهن مرة أنها مثلنا تحب فلسطين، وتألمت لسقوط بغداد، وأما صديقتها فقالت إنها تحب فيروز ووديع الصافي.

في أقصى اعترافاتها قالت لي (ديما) أنها تلبس السواد، والخواتم المزينة بالأفاعي والعقارب، وحاولت الانتحار أكثر من مرة، وتغني للجنس والموت والشيطان، وفعلت أبعد من ذلك في أسرة مفككة فهي من أب سكير وأم مطلقة.

ديما التي كانت تدرس الأدب الانكليزي في جامعة دمشق لا أعرف الآن مصيرها، فهل نجحت إحدى محاولات الانتحار التي كانت تتدرب من خلالها على الموت، أم تخرجت وتزوجت من أحدهم وهما الآن يمارسان السقوط في الهاوية إلى أقصاه، وذهبت إلى أبعد أبعد من أفعالها السابقة، أم أنها حظيت بمن يغفر لها ممارسة الهوى الخلفي ذات يوم وأنجبت ذاك الطفل التي قالت إنه الوحيد الذي سينقذها من السواد.

يصوغ الشباب اليوم بعضاً من أحلامهم بأشكال فرضتها الفسحة الجديدة للعالم المتقارب، والأسرة المشغولة بترتيب وجبات طعامها على ثلاث دفعات، ومجتمع يدخل في صراع حقائقه واعتقاداته، وتطلعات خائبة عن ذاكرة كرستها المناهج المدرسية كتاريخ، وأبسط ما في هذه المساحات تلك الرسومات التي تعطي وجوههم النائمة وجهاً هارباً إلى قناعه بعد أن أضنته الخيبات.