الفلاحون الأوائل

الفلاحون الأوائل

أين ومتى بدأت الزراعة؟  وكيف  حدث هذا التطور في نمط معيشة البشر؟ في الجواب الذي أسفرتْ عنه نتائج الدراسات الحديثة يقول:  إن منطقة الهلال الخصيب  كانت مهد القرى الزراعية الأولى، وقبلها كان الإنسان الأول، صياداً وجامعاً للمقتنيات، شأنه في ذلك شأن حيوانات البرية الفسيحة المفتوحة على الغابات الكثيفة، وكان غذاؤه يتألف من لحم تلك الحيوانات، التي ينجح في الإمساك بها وقتلها، ومن  الثمار، والأوراق، والجذور الصالحة للأكل التي يعثر عليها فيما حوله.

والواقع أن البشر كانوا يقضون جلَّ ساعات نهارهم بحثاً عن الغذاء. وكانوا عندما يستنفدون مصادر الغذاء في المنطقة التي يعيشون فيها، ينتقلون إلى منطقة أخرى، ولم يتعلموا تربية القطعان بدلاً من الصيد، والزراعة بدلاً من الرعي، إلا بعد مئات الآلاف من السنين.

إنسان «الصلصال»!

عاش الفلاحون الأوائل في الأراضي الدافئة في الطرف الشرقي لحوض البحر الأبيض المتوسط. وكان جو هذه المنطقة، في تلك الأيام، أكثر رطوبة عما عليه الآن، لذلك فقد كان مثالياً للزراعة. وكان هؤلاء الفلاحين الأوائل، يحتفظون بالأغنام، والماعز والثيران، والحمير، والجمال. ولم تُثبت هذه الحيوانات أنها مصدر لحم يُعتمد عليه أكثر من حيوانات البرية فحسب، بل أمكن أيضاً استخدامها في الحصول على الحليب، وفي حمل الأثقال. 

وفي الوقت نفسه تقريباً أنشئت المنازل الأولى وكانت تختلف من مكان إلى مكان، تبعاً لنوع مواد البناء المحلية. فقد كان الخشب قليلاً في الشرق الأوسط، مما أدى إلى استخدام قوالب خشبية لصناعة اللبن الطيني المجفف تحت أشعة الشمس. كانت  المنازل ذات غرف مستطيلة تتجمع حول الفناء. وكان الطهي يتم في الفناء، فوق نار مكشوفة، ولم يكن لديهم أوعية من الفخار، بل كانت قدورهم وصحونهم تُنحت من الحجر الجيري اللين، المتوفر حول ديارهم، وذلك بعد صقله وتلميعه. ومن المحتمل أن تكون صناعة الفخار قد بدأت بطريق الصدفة، إذ من الجائز أن تكون النار قد اشتعلت في سلال مُبطنة بالصلصال، لحفظ الماء، وأن يكون الصلصال قد احترق جيداً فتصلب، وأصبح لا ينفذ منه الماء.

ثورة العصر الحجري الحديث

 وقد بدأ هذا التغير الهام، الذي يسمى أحياناً بثورة العصر الحجري الحديث Neolithic  Revolution  في منطقة الهلال الخصيب  (فلسطين- سورية- العراق) حوالي سنة 8000 قبل الميلاد، حيث كان القمح والشعير ينموان برياً. ولابد أن شخصاً ما، كان قد لا حظ أنه إذا جمعت البذور البرية، وأعيدت زراعتها، أمكن الحصول على الحبوب أينما يريد. 

ومن الواضح أن هذه الحبوب كانت تزرع، في بداية الأمر،  في مساحات صغيرة، تشبه الحديقة تُحرث أرضها بواسطة عصاة حفر، أو مجرفة خشبية، اقتطعت من غصن متفرع بعد وضع ثقل حجر عليه. وقد عُثر على حبوب  الحنطة البرية  والشعير البري وحتى  حبوب العدس البري  في موقع  تل (أبو هُريرة) وهي قرية زراعية سورية على نهر الفرات الأوسط سبقت العصر الحجري الحديث. وهنا تعلم البشر  -أغلب الظن -  مهارات الزراعة، فبدأوا في توفير بعض البذور الصالحة للأكل، والتي كانوا يجمعونها كل صيف،  ولكي يزرعوها في الشتاء التالي في أراضي سبق إعدادها لذلك. وكانوا عندما تنضج المحاصيل يأكلون جزءاً فقط من الحبوب ويحتفظون بالباقي لزراعتها في الموسم التالي. ولا بد وأن زراعة المحاصيل، كانت من اختصاص النساء، بينما كان الرجال يخرجون للصيد.

 دوافع التطوير!

لقد كان لهذا التقدم الزراعي أثران هامان جداً، إذ تحرر الإنسان من البحث الدائب عن الغذاء، مما مكنه من العيش في أماكن مستقرة دائمة. وأصبح في مقدور الفرد الواحد، أن يزرع من الغذاء أكثر مما يحتاج لنفسه ولأسرته، وبذا تمكن من المقايضة على بعض الفائض لديه، بأشياء أخرى مما ينتجها جاره. وقد أدى شيء من هذا القبيل، إلى ظهور الملكية الخاصة في هذه المجتمعات الأولى. ولقد استمر هذا الاتجاه العام  وزاد عدد المتخصصين بالفلاحة وزادت مهاراتهم وكانت فلاحة الأرض تحتاج إلى آلات خاصة، وهي الآلات نفسها التي نسلم  باستعمالها حالياً مثل المناجل، والمعازق، والفؤوس، وفي النهاية المحراث الخشبي، الذي قاد الثورة الزراعية وشق الثلم الأول وفسح المجال لظهور القرى الزراعية الأولى، ومن ثم المدن الكبيرة، وحضارات العالم القديم في الشرق الأوسط ووادي النيل.