السخرية والطرائف

السخرية والطرائف

تعتبر السخرية والطرائف أو الحكايات القصيرة ذات الأسلوب الانتقادي، جزءاً هاماً من أدب الشعب، وغالباً ما تُنسب إلى بطل معين، يخلقه الناس أو يستمد عناصر وجوده من بيئة معينة، فتروى النكت والطرائف المختلفة على لسانه. وقد نقل الأدب المكتوب الكثير من هذه الطرائف وسيرة أبطالها ومنها الأدب الكردي الذي تشكل هذه الطرائف الساخرة أحد عناصر الواقعية فيه.

 

يقول الدكتور عزالدين مصطفى رسول في رسالة الدكتوراه التي قدمها في جامعة باكو في آذربيجان السوفييتية عام 1963، وكانت بعنوان «الواقعية في الأدب الكردي»: «لدى الكرد أبطال ساخرون كثيرون، تسخر حكاياتهم المروية بالنظام الاجتماعي المهتري، والتفاوت في حياة ومعيشة الناس، والفرق المزري بين الجوع واليسر الموفور». من أشهر الأبطال في هذا المجال هو «ملاي مشهور» أو «ملاي مزبورة»، وهناك روايات مختلفة حول أصله ونسبه حسب ما جاء في كتاب اللطائف الطاجيكية الصادر في ستالين آباد بطاجيكستان عام 1958، فهو الشخصية الفكاهية نفسها التي ينسبه أكثر شعوب الشرق إلى أنفسهم، ويعتبرونه واحداً من الأبطال الذين أنتجوه، فهو «جحا» الرومي عند العرب أو «ملا نصر الدين» أو «خواجه نصر الدين» عند الفرس والترك والتتار والآذريين وغيرهم، و«نصر الدين أفانتي» عند شعوب الويغور في الصين، وينسب الكرد الملا إلى أنفسهم كذلك، رغم أن جامعي نكت جحا باللغة الكردية يؤيدون بأنه تركي من منطقة «آق شهر» حسب ما جاء في كتاب نكات جحا جمع وترجمة محمد مصطفى كردي في كركوك.

جاء في كتاب «نكات حول الخاوجة نصر الدين» للكاتب السوفييتي غردوليفسكي الصادر في موسكو عام 1958 وكذلك في كتاب «نكات ملا نصر الدين» من نشر أكاديمية علوم آذربيجان عام 1959 أنه سواء أ كان الملا تركياً أم عربياً أم تترياً أم كان هو نفسه خواجة «نصر الدين الطوسي» العالم الشهير في القرن الثالث عشر أم لا، أو كان أيضاً  العربي «دجين بن ثابت» الملقب بجحا والذي مُزجت نكاته بنكات «نصر الدين» التركي كما تؤكد مصادر عربية، أو حتى إذا كان مضمون نكاته من نتاج عصور مختلفة..الخ، فإن الملا على كل حال شخصية مشهورة عند الكرد يسخر بمساوئ المجتمع ويجعل من شخصية تيمورلنك ستاراً للسخرية بكل ظالم ومحتل.

من أجل كسرة خبز

 وأن كانت لذعات جحا عنيفة وتحاول دائماً حل المشاكل في حدود النظام الاجتماعي القائم،  فإن لدى الكرد شخصية خاصة تحاول من خلال نكاتها هدم النظام المبني على الاستثمار من القاع وتصوب نحو جميع المبررات التي تختلق لتبرير الاضطهاد والاستثمار وهو «كفر أحمد».

وعلى نمط كفر أحمد نجد أبطالاً ساخرين مثل «لاله سرحد» وغيره لنكاتهم معان عميقة نابعة من الشعور بالاضطهاد والفقر، كما تنتشر مقاطع شعرية متداولة بشكل كبير في كردستان العراق، لا يُعرف لها قائل، مثل المقطع التالي المأخوذ من كتاب قصائد من الفولكلور من جمع الشاعر مصطفى صفون حاج ملا رسول:

«رباه لنتحاسب

ها قد بلغت الخمسين من عمري

ولم أر الراحة في أفيائك

صمت رمضان أربعين عاماً 

دون أن أفطر في داري 

إن ملكت خفاً انتعله

كان علي أن اتجول في عشر قرى

من أجل طعام شهي

أ كان هذا رزقاً اعطيتني إياه

أكسبهُ كاداً سائراً مثرثراً

ألا تذكر دار قلي خان 

إذ ضربوني مائة ركلة 

من أجل كسرة خبز 

كنت ترى ذلك فلم تثأر لي 

أ فتقول الآن: بإن فلان مسيء

تجعل من الأرض فراشي والصخر وسادتي

فإذا لم أعاتبك أنا .... فهل أنت تعاتب».

سخرية شعبية! 

يؤكد الكاتب علاء الدين سجادي في كتابه «عقد اللؤلؤ» أن التاريخ الكردي يزخر بعشرات من الأبطال الساخرين، ومن هؤلاء من ينتقد المساوئ بقسوة، ومنهم من ينتقدها بلين من أمثال «أحمدي كرنو». ثم ظهر أبطال آخرون في المراحل اللاحقة، يروي الشعب على ألسنتهم النكات التي تسخر من النظام الإقطاعي والحكم الاستعماري في حينه. وإلى هذا النوع تنسب نكات تُروى على لسان محمد بك حاج رسول بك الذي يعتبر نموذجاً لمثقفي بداية القرن العشرين. وتتحدث هذه النكات عن أعمال «أمين بك قاميش» كنموذج لإقطاعي بعيد عن التمدن والثقافة جرى تنصيبه «قائمقاماً» من قبل الإنكليز والحكم الملكي في العراق حينها، فيأتي خلال حكمه بأعمال مضحكة! وهذه النكات تُعلن عملياً إفلاس الإقطاع وحكمه المساند للاستعمار والمستند إليه.

«الخال رجب.. ومجانين عامودا»

تشتهر مدينة السليمانية في العراق أيضاً بهذا النوع من الأدب الشعبي الساخر فيروي أبطاله النكت، ومن هؤلاء اشتهر «الخال رجب»، وهو عامل ظريف وملقي نكات بارع، أخذ الناس يرددون على لسانه وينسبون إليه نكات لاذعة كثيرة، تهزأ بالحكم الملكي وظواهر المجتمع السيئة في منتصف القرن العشرين.

كما تشتهر مدينة عامودا في الجزيرة السورية أيضاً بالطرائف والنكت الساخرة، وهي تُروى على لسان مجانين عاشوا في المدينة في وقت سابق، مثل اسماعيل المجنون الذي جمعت حكاياته في كتب ومقالات، وكذلك «هاوارو» الذي ضربت حكاياته أو الأمثال عن حياته مثالاً عن «الجنرال» غريب الأطوار، ومثالاً عن مساوئ الحياة الاجتماعية وآلامها.