أما آن للطيور الغريبة أن تعود..؟

أما آن للطيور الغريبة أن تعود..؟

رغم أنّ الصراع بين التيارين الثقافيين العريضين الأساسيين: (الفن من أجل الفن) و(الفن من أجل المجتمع)، هو صراع مستمر، ولكّنه يخبو أحياناً ويشتد أحياناً أخرى.

ولعل المحدد الأساسي لحدة الصراع بين التيارين هو درجة حركة المجتمع، ففي المقاطع التاريخية التي ينزل فيها الجمهور إلى ساحة الفعل السياسي التاريخي - كالتي نعيشها الآن، وكالتي عاشها العالم في النصف الأول من القرن العشرين- يشتد عود (الفن للمجتمع)، ويشتد الصراع، وحين تهدأ ثورة الجماهير يطفو على السطح (فن من أجل الفن). يمكن التدليل على ذلك بقراءة عامة للقرن العشرين بمدارسه الفنية والنقدية المختلفة وبأسماء أعلامه من أدباء وفنانين، وذلك طبعاً بعد الأخذ بعين الاعتبار، الانزياحات الموضوعية بين النتاج الثقافي الفكري (الفوقي عموماً) وبين القاعدة الاقتصادية وتطوراتها. 

إنّ ما لا يمكن إنكاره ضمن المقاربة السابقة، هو أنّ الفن ذاته، وبتياريه، يتحول أداة هامة من أدوات الصراع الأيديولوجي بين الفريقين، وما يمثلانه بالمعنى الاجتماعي الطبقي العريض. ولكّن الوقوف عند هذا الحد، وإن كان يعطي شرعية طبقية واجتماعية، وحتى إنسانية بحدود ما، لفن من أجل المجتمع، لكّنه ينتقص من هذا الأخير ببعده الإنساني العام، ويترك لنقيضه هوامش للجدل والحركة لا يستحقها.

إنّ مقاربة أخرى للموضوع، مقاربة لنشأة (الفن من أجل الفن) من باب مفهوم (الاغتراب) عند ماركس، تضع الأساس الإنساني العام للقضية، وتسمح بالوصول إلى أحكام أكثر شمولاً وعمقاً..

وفقاً للموسوعة البريطانية، فإنّ أول من أطلق شعار (الفن من أجل الفن) هو الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان عام 1818، وكان عمله استلهاماً واستكمالاً لعمل الفيلسوف الألماني امائويل كانط، ودعا كوزان في نظريته إلى إبعاد الفن عمّا سواه، وحصر وظيفته لا برؤية الجمال في الأشياء، بل بالرؤية الجمالية للأشياء. وبكلام آخر فإنّ وظيفة الفن هي إعادة صياغة العالم بسكب (الذات الإنسانية الجميلة) فوقه، وهي نظرة تقر دون إعلان صريح بأن العالم قبيح بذاته، وبأنّ الجمال صفة إنسانية بحتة، وهي صفة للوعي الإنساني تحديداً- للذات الإنسانية. وذلك بمقابل (الفن للمجتمع) التي ترى الجمال موضوعياً، ترى الجمال في الطبيعة والناس، وترى أن الفن هو تذوق لذلك الجمال، وتدريب إنساني عام على التقاطه وإعادة إنتاجه.. 

لن نناقش الأبعاد الفلسفية لهذه النظرة فهي معروفة بوصفها نتاجاً للفلسفة المثالية، والمثالية الذاتية بخاصة، بمقابل النظرة المادية للعالم، وبما تحمله وتمثله كلا النظرتين من تيارات طبقية اجتماعية، ففي هذا كتب الكثير والكثير.

إنّ تاريخ صياغة النظرتين/ المدرستين/ التيارين، هو النصف الأول من القرن التاسع عشر، التاريخ الذي سادت فيه الرأسمالية سياسياً، وبنت دولتها الحديثة التمثيلية، وهو التاريخ الذي ساد فيه العمل المأجور الذي كان لدى ماركس بمثابة كلمة السر الكبرى والمفتاحية التي تسمح بإعادة قراءة العالم من جديد..

إنّ العمل على العموم، هو الشكل الأكثر أساسية ونوعية لتفاعل الإنسان لا مع الطبيعة فقط، بل ومع الناس الآخرين أيضاً، ومع جسده نفسه بوصفه معطىً موضوعياً. وإلى ذلك، فإنّ العمل هو أيضاً العامل الحاسم في استقلال الإنسان عن المملكة الحيوانية، ولكن ليس أي إنسان، وإنما الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً وعضواً في الجماعة البشرية، وهذا الكلام بات مثبتاً بنظرية داروين وتحديثاتها المستمرة وبتعميمها الفلسفي الذي صاغه إنجلز وما أضيف إليه من تحديثات.

العمل بوصفه تفاعلاً مباشراً للذات مع الموضوع، تفاعلاً للإنسان مع الطبيعة والناس الآخرين وجسده، استمر بصفته هذه مئات الآلاف من السنين وربما أكثر، من المشاعة البدائية ووصولاً إلى المجتمعات الطبقية العبودي والإقطاعي، وحتى الرأسمالية التي تغير معها هذا العمل تغيراً حاسماً.

إنّ العمل ليس إلا دمجاً تفاعلياً بين وسائل الإنتاج وقوة العمل، تعيد خلاله قوة العمل صياغة الطبيعة وتعيد صياغة نفسها ضمناً، ملبيّة حاجات الجسد والروح المتنامية، فتعيد إنتاج نفسها مادياً وروحياً. رأس المال فعل شيئاً واحداً، هو اقتحام هذه العلاقة الثنائية والوقوف في منتصفها تماماً، هو فصل قوة العمل عن وسائل تحققها، عن وسائل الإنتاج. وبتعميم أوسع نقول: هو فصل الذات الإنسانية عن الطبيعة- المجتمع- الجسد، بما يحوّل الإنسان من كائن (ذاتي التواسط) حسب تعبير ماركس، إلى كائن (خارجي التواسط)، فالصلة «الطبيعية» مع الطبيعة قد تمّ قطعها برأس المال.

وأنتجت عملية القطع هذه ما أسماه ماركس (اغتراباً)، فالإنسان بتفاعله الأول مع الطبيعة كان (يموضع) نفسه في منتجه، فيكون منتجه امتداداً لجسده وروحه وعقله، امتداداً أليفاً يعكس صورته أمام الطبيعة والبشر الآخرين، وبالعمل المأجور غدا هذا (التموضع) مغترباً، مشيّئاً، فمنتج العامل ليس غايته، وليس صورته، بل هو وسيلته لتجديد قوة عمله، وسيلته نحو غاية هي أقل الغايات إنسانية- حفظ النوع!

ولما غدا التفاعل مع وسائل الإنتاج وسيلة لا غاية، غدا التفاعل مع الطبيعة نفسها وسيلة أيضاً، أصبحت الطبيعة شيئاً خارجياً معادياً، يفرض على العامل المأجور تفاعلاً مغترباً لا يهدف إلى الاندماج مع الطبيعة بوصفه جزءاً متطوراً منها، بل بوصفه وسيلة للبقاء على (قيد الطبيعة)، على قيد الحياة، فالإنسان والطبيعة، جزء وكل، ولا أمل للجزء في تناقضه مع كلٍ يضمّه.

الطبيعة غدت قبيحة، ومصدراً للشقاء، وبات من الضروري أكثر من أي وقت مضى، البحث عن الجمال، عن الفن، فالذات التي كانت تتفاعل مع جسدها والناس الآخرين والطبيعة الخارجية، بوصفها أجزاء متكاملة من طبيعة عامة واحدة، وترى الجمال وتتذوقه، وتعيد خلقه فناً، لم تعد قادرة على فعل ذلك إلّا بقدر ما يفيض من ساعات اليوم عن العمل المأجور وما يستلزمه من ساعات إضافية لإعادة تجديد الجسد- الآلة والعقل، ليوم العمل اللاحق، وهذا القدر الفائض لم يكف عن التناقص. على الضفة الأخرى، وإن كانت صلة العامل المأجور بالطبيعة قد عانت خللاً جدّياً، فإنّ البرجوازيين أيضاً انقطعت صلتهم التفاعلية الأساسية/ العمل، مع الطبيعة انقطاعاً تاماً تقريباً، وباتت محاولة الاتصال معها مجدداً محاولة ذهنية بحتة، فناً من أجل الفن، جمالاً من أجل الجمال، ذاتاً تسكب جمالها على الطبيعة التي لم تعد جميلة البتة!

في مجتمع العمل المأجور، لا يغترب العامل فقط، بل يغترب كل إنسان، فالتناقض مع الطبيعة ليس خياراً يستطيع الجنس البشري اختياره، بل هو هامش ضيق تسمح به الطبيعة مؤقتاً، لبعض أجزائها بتحليق مؤقت خارج سربها، ذلك التحليق الذي إن استمر كما هو سيودي بالطيور الغريبة إلى نهايات وخيمة، وبما أنّ هذه الطيور الشرسة الكبيرة غدت بأجنحة نووية فربما يودي بها وبالطبيعة نفسها..

الفن للفن، هو تحليق مأزوم مؤقت، والفن للناس، للمجتمع، للطبيعة، هو التحليق «الطبيعي» والجميل ضمن السرب الطبيعي.