«عيشها.. وبس..»
قاسيون - علاء أبوفراج, أرشيف

«عيشها.. وبس..»

بدا وكأنه سمكة عاجزة تحاول الإفلات من شباك الصيّاد، وضع أكياسه على الأرض، ورسم ابتسامة متكلفة على وجهه المنهك واستمع بتأن إلى سؤال المذيعة التي تحاول تلقف ما أمكن من «الناس العاديين»، أدار رأسه قليلاً فتفحص الكاميرا المثبتة على أحد الأرصفة الدمشقية المزدحمة وحدّق فيها بخجل ثم أطرق رأسه، «ما رأيك بقرار رفع أسعار المكالمات الخليوية؟!»

لم يتوقع الرجل السؤال، وبدا أنه لم يسمع بعد بمثل هذا القرار، تلعثم قليلاً وحكّ رأسه، وقال بلهجة حلبية فضحت غربته: «عن جد؟!» هزت المذيعة رأسها بالإيجاب، بدا وكأن العجوز يحاول كتم مئات الشتائم المتزاحمة، أغلق عينيه بعض الشيء وتنهد ورفع صوته المبحوح قائلاً : «هلأ وقتها؟!».

فشة خلق!

إنه أحد المشاهد اليومية على شاشة أحد التلفزيونات «الشبه رسمية»، تقرير يومي يلقي الضوء على ما يستجد من أحوال المعيشة وغلاء الأسعار، فيما يشبه حفلة متكررة من «فشة الخلق» أمام الكاميرات، اختلفت الآراء التي طالعها التقرير الأخير المتعلق بغلاء أجرة المكالمات المحلية عبر «توأم التواصل» المحمول.

كانت الأغلبية «مهذبة» للغاية في نقدها لتلك الخطوة، بدا وكأن للكاميرا سحرها الخاص في تخفيض مستوى الحنق اليومي لـ«عينات الاختبار» التي طالعتنا تباعاً على امتداد دقائق التقرير القصيرة، ربما  لم تنجح كثيراً في عملها هذا حينما وضعت مساندها على شوارع الأسواق الضيقة والشوارع الشعبية، لكنها قامت بالمطلوب على أكمل وجه، أدّت الشاشة عملها في «نقل الصورة للمعنيين»! واكتفت بهذا القدر، معتبرة أن الحد الذي وقفت عنده  يعد إنجازاً و«سبقاً» لم نعهده منذ سنوات في مجال «الإعلام الجماهيري المتابع لمشاكل الناس وهمومهم اليومية». لم يتوقع أحد الكثير على أية حال، «تنفيسة رسمية» وعلى الهواء قد ترفع مستوى الاهتمام، لكنها لن تخدش حياء أحد.

الطريف والموجع أيضاً متابعة ما يذاع على منابرنا الإعلامية المتنوعة، حين يتعلق الأمر بنقد السياسات الحكومية وقرارتها المستجدة، فالسيناريو لا يتغير أبداً، تتصل الجهة الإعلامية بالوزير المعني، وتتمكن بعد محاولات عدة من «انتزاع» تصريح مكتوب أو مذاع، تنقله للمواطنين المتابعين، يستخدم الوزير عندها عبارات طنانة مثل «بالقيمة المطلقة» و«بالناتج الإجمالي» و«وفق الخطة رقم كذا من عام كذا»، ويفرد نسباً مئوية توضح «حجم النمو» بالمقارنة مع ما يشعر به «المواطن العادي» من تراجع وتدهور، يفند الإشاعات ويعد بحلول «شاملة» تحل المشكلة مرة وللأبد، لكن الجميع أصبح يعلم بأن عليه أن يلقي بأكثر من نصف الكلام في البحر، علمته التجربة كما علمت غيره إجراء المزيد من التدقيق فيما يطرحه الوزير على الشاشات من أرقام ونسب.

ترفع القبعة لبعض المهتمين منهم، وهم يحاولون جاهدين البحث عن إحصاءات «غير رسمية» من هنا وهناك، تصف الواقع كما هو، يقومون بإجراء الكثير من الاتصالات ومقابلة العديد من أصحاب القضية، لكنهم لا يستطيعون منافسة التلفزيونات الرسمية وأرقامها «المتفائلة» للغاية، فتتحول بحوثهم إلى منشورات فيسبوكية أو مقالات رقمية، يتناقلها الكثير منا بكل مرارة تعكس انفصال «عالمنا» عن «عالمهم».

الحل السحري!!

وبالحديث عن «انفصال العوالم»، لا بد من المرور قليلاً على حملة «عيشها غير»، بعد أن «بشّر» بها الكثير على أنها الحل الأمثل لمشاكل المواطنين المعيشية، فقد امتلأت الشوارع بإعلاناتها وتكاثفت صورها على الشاشات باعتبارها «دعوة لتعزيز المواطنة وتحمل المسؤولية» كما يقال! لكنها سرعان ما تبخرت في الشارع مع حرارة الأرصفة وازدحام السيارات وأمام مشاهد عائلات النازحين وطوابير الخبز المازوت والغاز، وجموع المتحلقين في مواقف باصات النقل وسيارات الأجرة، وبعد أن تحولت إلى نكتة سمجة على مواقع التواصل الاجتماعي، سقطت عنها في غضون أيام جميع «التغليفات» البراقة وأخذت تتضح معالمها، كاتفاق ضمني بين جهات حكومة ومؤسسات تجارية خاصة لفرض «سوق تخفيضات» على الناس، باعتباره الحل السحري لجميع مشاكلهم. ولمن لا يعلم، تتركز معاناة السوريين في ارتفاع أسعار العمليات التجميلية للوجه والصدر! فكان لا بد من مشاركة بعض العيادات المتخصصة في هذه الحملة بعروض وأسعار مخفضة، إضافة إلى ارتفاع أسعار وجبات الغذاء في أحد أكبر مطاعم دمشق و أفخمها، مما اقتضى مشاركة إدارة هذا المطعم بالطبع في تخفيض الأسعار وتقديم «مقبلات» مجانية، وتخفيض يصل لحدود الـ 25 بالمائة كي يشعر صاحب المكان بأنه «شارك»!.

إنه الحل العبقري الذي أعفى الحكومة من مسؤوليتها في مراقبة الأسعار ومحاسبة الفاسدين، وطرح أمام الناس تصورها المريض عن مجتمعنا، بعد أن قسّمه بين صاحب حاجة وجهة «تمنّ» عليه بتأمينها، بعد أن قامت بخفض سعرها بضع ليرات. تحولت «الجهات الرسمية» إلى مشرف عام لـ«سوق مضاربات» مقابل نسبة لا بأس بها للدعم الإعلاني والخدمي، تلك «الحملة» مفيدة بلا شك، فقد فضحت انقسام المجتمع إلى «عوالم» لا تعرف بعضها، أو «عالمين» فقط إن أردنا الدقة.

يحتاج الشعب المنهك إلى خطوات إضافية، شبعت طوابير الانتظار من اجترار الكلام، ولم يعد جائزاً أن تعبر «قرارات رسمية» جائرة أمام أعيننا دون أن يقول أحد شيئاً حيالها، تجاوز الكثير منا حدود «الشكوى» في تقرير تلفزيوني أو مقال صحفي، ولم يعد مقبولاً أن تبقى الاحصائيات والأرقام «الغير رسمية» حبيسة الصفحات الزرقاء، على إعلامنا أن ينهض بحزم لمواجهة مصاصي الدماء، لكنه لن يقدر على القيام بذلك إن بقي مرتبطاً بحفنة معدودة ومعروفة من تجار الأزمات، لذا لن يشعر أي منا بالتفاؤل في أي وقت قريب، ربما سيحاول البعض أن «يعيش» ما يأتي من الأيام «غير»، أو أن «يعيش» تلك الأيام.. فقط.