«استجابة غير قاتلة»

«استجابة غير قاتلة»

«سمعت صوتاً قوياً.. وعلمت بأن خطباً مريباً قد وقع..» التفت العجوز المذهول وكأنه يحاول استيعاب ما جرى مرة ثانية.. «نعم.. لقد كان صوتاً قوياً.. ركضت على الفور إلى الخارج.. كان الجيران يصرخون ويركضون خائفين..» صمت لبرهة وتنهد ثم قال بحزم: «لقد كان «رافاييل» جاري وصديقي منذ أكثر من عشر سنوات.. إنه رجل محترم وأب رائع..» نظر إلى الكاميرا مباشرة وصاح: «لقد سئمنا من كل هذا القتل.. الموت يحيط بنا من كل جانب.. على الحكومة أن تفعل شيئاً حيال ذلك..»

كان هذا من مقابلة مباشرة أجرتها مراسلة قناة CNN الأمريكية منذ أيام، فهناك المزيد حول الاحتجاجات الأمريكية التي شغلت الإعلام في كل مكان، فقد قتل مسلح «أسود» رجلين في رجال الشرطة في «بروكلين»، بعد أن فتح عليهما النار وهما جالسان في سيارة الدورية الخاصة بهما، لم تمض بضع ساعات حتى تحول الخبر إلى حديث الساعة، بدأت القنوات الرسمية بتغذية التوتر وتوجهيه إلى مكان محدد تماماً، عنونت صحيفة النيويورك بوست قبل أن تصدر الشرطة بيانها الرسمي المتعلق بالتحقيقات: «مقتل شرطيين في عمل انتقامي خاص بقضية «ايريك غاردنر» الأخيرة» في إشارة مباشرة لآخر ضحايا عنف الشرطة الأمريكية، وفردت فوكس نيوز تقريراً مفصلا بعنوان «تأهب حول البلاد لجميع قوات الشرطة بعد مقتل اثنين من عناصرهما في بروكلين» في تحضير استباقي لأي عمل مستقبلي، بدأت ماكينة «الرجل الأبيض» العنصرية بالعمل بخبث من جديد.
«دون أي تحذير مسبق»..!
وفي التفاصيل، أردى شاب أسود رجلي الشرطة بعدة عيارات نارية «دون أي تحذير مسبق» كما يقول مدير شرطة «بروكلين»، مما أدى إلى مقتل الشرطيين «رافاييل راموس» و «وينجيان لو» على الفور، وسرعان ما أطلق القاتل «اسماعيل برينسلي» النار على نفسه بعد محاصرة رجال الشرطة له قرابة الثالثة عصراً من ذات اليوم، لتبدأ عملية تقصي الحقائق، لم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً، فقد راجعت الشرطة آخر الصور التي نشرها «اسماعيل» على موقع «انستغرام»، وكانت تلك «الأدلة القاطعة» التي رجحت نظرية «العمل الانتقامي»، هنالك صور لمسدس الشاب مع تعليق صغير: «سأضع أجنحة لاثنين من الخنازير اليوم» بالإضافة لبعض المنشورات الإلكترونية مثل: «أفضل أن أموت كرجل عصابات بدلاً من أن أعيش كجبان»، ثم اكتملت «التهمة» بتصريحات ألقتها صديقته المقربة للإعلام أفادت فيها عن اضطراب عقلي مزمن أصاب «اسماعيل» في أيامه الأخيرة، تكفي معاودة تصفح صوره الالكترونية وهو ينفخ دخان سجائره ويلوح بمسدسه لتأكيد ذلك.
هناك الكثير من الشكوك التي تستطيع دحض كل تلك النظريات، كما أن «نظرية المؤامرة» تطل برأسها عند كل منعطف مثير من هذه القضية، ياللمصادفة!، مقتل شرطيين «ملونين»، «أصفر» آسيوي، و«بني» من أصل مكسيكي على يد شاب أسود عشية الأعياد، وفي الوقت الذي تشتعل فيه البلاد غضباً نتيجة أحداث العنف العنصرية الأخيرة من قبل رجال الشرطة البيض ضد السود الأمريكيين، وبعد أن احتدم النقاش حول قوانين الهجرة الجديدة التي قد ترحل مئات الآلاف من سكان الولايات الجنوبية إلى المكسيك، لا يستطيع أحد أن يزيل بسهولة احتمال فبركة هذه القصة الرخيصة لاختراق صفوف الأقليات التي توحدت بعد أحداث «فيرغسون» الأخيرة، لقد وجد «الملونون الأمريكيون» الكثير من القواسم المشتركة التي جمعتهم في ذات الشوارع في مواجهة عنصرية الحكومة الامريكية وذراعها العسكرية من أجهزة الشرطة وحفظ النظام، ولا غرابة في أن يرى البعض في هذه الحادثة محاولة يائسة لتشتيت شمل المعارضين و تعبئة الجماهير الصامتة لأعمال أكثر صدامية وعنفاً تحت لائحة واضحة من الحجج.
مواقف «سوداء»
في مكان آخر، تحاصر الصحفية المقدمة الأمريكية السوداء الشهيرة «أوبرا وينفري» بسؤال عن الأحداث الأخيرة في أمريكا، تجيب «أوبرا» بكل ديبلوماسية وذكاء: «أنا أشجع على الدوام الحراك السلمي المتزن الذي لا يؤذي أحداً ويعرف بالضبط ما يريد»، بينما يتهرب الممثل الكوميدي الأسود «كريس روك» من السؤال بالكامل في معرض ترويجه لفيلمه الجديد «توب فايف»، وعلى بعد عدة شوارع فقط من أكبر تظاهرة شهدتها العاصمة نيويورك منذ أسابيع، يريد «كريس» الحديث عن فيلمه الجديد الذي لا يحوي أكثر من خمسة من كبار الكوميديين السود وهم يتبادلون النكات، فيلم يحوي نجوم الكوميديا من السود الأمريكيين يتم إطلاقه بالتزامن مع احتداد التظاهرات «السوداء»، يا للصدفة! بينما يطل بقية نجوم الرياضة والغناء في صور «انستغرام» وهم يحملون لافتات الدعم للمتظاهرين، أيضاً بالتزامن مع إعلانات حفلاتهم الموسيقية أو مبارياتهم الهامة!
سلاح «غير قاتل»
تطول قائمة المصادفات مع نهاية هذه السنة، فهناك من يحاول إعادة قولبة كل تلك الاحداث المثيرة، هناك خطة تستهدف ما يستجد بحماس في الشارع الأمريكي، سلاح «غير قاتل» توجهه الحكومة الأمريكية على العقول التي استبدلت نور التعقل بنور الشاشات التلفزيونية، لا داعي لإطلاق الرصاص على تظاهرة قد تترك الشوارع وتكتفي بـ«الانستغرام» و «تويتر»، أو على حراك شبابي لا تستطيع تفرقته عن أي «موضة» أخرى، تشتعل، فتنتشر، فتستبدل وتتلاشى..