ليلة القبض على «أورويل»

ليلة القبض على «أورويل»

«حين تكون الوظيفة الأساسية للخطب والكتابات السياسية هي الدفاع عن سياسات لا يمكن الدفاع عنها أو تبريرها في الواقع، تصبح اللغة التي تستطيع جعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق أداة حتمية لضمان استمرار هذه النظم. وهو ما يؤدي بدوره إلى تدعيم هذه اللغة الفاسدة المضلِّلة، وتقويتها حتى تًصبح مهيمنة ومسيطرة، بينما تُحارب اللغة الصالحة الكاشفة، بما يؤدي إلى اختفائها وتواريها»

يبلغ عمر هذه الكلمات أكثر من ستين سنة، لكنها تبدو اليوم أكثر «عصرية» من أي وقت مضى، بدا وكأن تأثير حالة الانقسام في الآراء قد امتد ليشمل مفردات الواقع المستجد، وأصبحت «الكلمات» تعمل على تعبئة المستمعين والمشاهدين من الجماهير في أطر محدودة الأفق تزيد من عمق الشرخ، وهذا بالضبط ما قصده «جورج أورويل» عندما خط تلك الكلمات بعد انتهاء الحرب العالمية ضمن مقاله الشهير «السياسة واللغة الإنجليزية»، لقد أدرك «أورويل»، الكاتب والصحفي، بأن شكل الخطاب الإعلامي ومفردات اللغة المحكية ستلتزم بمظاهر التغييرات السياسة العميقة آنذاك، لكنه اليوم ضحية اللبس اللغوي ذاته بعد كل تلك السنين، وهو نجم الصحافة والتلفزيون وصفحات التواصل الاجتماعي الرقمي المعاصر، لكن، لسبب مختلف تماماً..

بين «الإرهاب وحرية الرأي»!

بدأت القصة عندما أعلنت بعض المواقع الإلكترونية المصرية عن  القبض على طالب جامعي بتهمة غير مسبوقة: «حيازة رواية 1984»، إحدى أشهر روايات صديقنا «أورويل» على الإطلاق، وسرعان ما انطلقت حملة إلكترونية واسعة تركزت على اتهام الأجهزة الأمنية المصرية بمصادرة حرية الرأي، وانزلقت العديد من المواقع الإخبارية المصرية والعربية في زوبعة هذه الأنباء دون أن يتأكد أحد من صحتها أولاً، مما دفع الأجهزة الرسمية المصرية إلى إطلاق تصريح يوضح ملابسات الحادثة وينفي علاقة «أورويل» بالموضوع، وأفاد اللواء محمود فاروق مدير مباحث الجيزة بأن الطالب قد ضبط وهو يحاول تصوير إحدى دوريات الشرطة أمام مبنى جامعة القاهرة، مما جعله عرضة للاتهام بالمشاركة في عمل إرهابي محتمل، وتم جرد مقتنياته التي تضمنت دفتراً يحوي عبارات عن «الخلافة الإسلامية» وعدداً من الهواتف المحمولة بالإضافة إلى الرواية وعاود التأكيد بأنّ رجاله لا يعرفونها أصلاً وتم تسجيلها في المحضر كبقية المقتنيات بشكل روتيني، لكن كل هذا لم يوقف آلاف المصريين من التعبير عن دهشتهم و«سخطهم» من مثل هذا «الاعتداء» وعاودوا نشر الروابط الإخبارية المغلوطة عدة مرات لتنتفض السجالات الفيسبوكية المعتادة بين أطراف الصراع الداخلي المصري، وزاد الطين بلة تصريح بعض المحامين عن نية النيابة المصرية استخدام الرواية كأحد أدلة الإدانة كونها تتحدث بالمجمل عن سطوة حكم شمولي يتم فيه تمجيد القائد الفرد أو «الأخ الأكبر» كما تسميه الرواية في محاولة لتخيل صورة مستقبل أسود تختفي فيه جميع أشكال الحريات الفردية.

وفي غضون ساعات، بدأ الإقبال الكبير على قراءة رواية «1984»، وانتشرت روابط تحميل الرواية بشكلها الإلكتروني وكثرت الاقتباسات على صفحات «النشطاء»، أصبح الجميع يعلن عن امتلاكه للرواية على رف مكتبته وبدأت الإسقاطات تصبح أكثر جرأة ووضوحاً، وتحولت مصر إلى بطلة «أورويلية»، مما دفع البعض إلى الكتابة على صفحات الفيسبوك بسخرية: «من جورج أورويل إلى الحكومة المصرية: نشكركم على حسن تعاونكم معنا في جعل روايتنا الأكثر قراءة في مصر!»، وعلق آخر: «النهارده أمة لا إله إلا الله اشترت الرواية دي يشوفوا قبضوا عليه ليه»، أصبحت الرواية التي بقيت لسنين على الأرصفة دون أن يشتريها أحد بجنيهات قليلة حديث الساعة و«ملهمة النضال»، إلى أن بدأت الحقيقة تتكشف تدريجياً فسحبت العناوين العريضة واستبدلت بلهجة أقل مواجهة، وسقطت بعض الصحف تحت رحمة الأقلام المنافسة بعد ان انساقت وراء الإشاعات الأولى، وبدأت موجة جديدة من تبادل الاتهامات لم يكن للطالب الجامعي ولا حتى «أورويل» أي نصيب فيها.

لغة دعائية 

تحدث أورويل عن مفهوم «اللغة الدعائية» كوسيلة لفرض تحليل محدد حول خبر ما، ومن غير وجه حق في معظم الأحيان، وعن دور الخطاب السياسي في منع الجمهور من الاستماع إلى خطابات أخرى، وازدياد استخدام «الكليشيهات» والتعبيرات الجاهزة في الإشارة إلى الأشياء والوقائع المزعجة وغير المرغوب فيها، لينتهي الأمر بقوالب جاهزة للخبر، ولغة ومصطلحات متفق عليها تُفرض على الجميع، وليصبح استخدام أحد أنماط تلك اللغة دليلاً على موالاة صاحب القول للتيار الذي تبنى ذلك النمط من الكلام، وهذا ما نراه اليوم في بلاد تتأرجح بين نفوذ المتشددين ومخططاتهم الإرهابية ونقيضهم المتسلط الذي يمسك بالطرف الآخر من الحبل القابض على رقاب البسطاء.

سيبقى ذلك التأرجح مستمراً إلى أن تستقر البوصلة على الاتجاه الصحيح، وإلى ذلك الحين، لن تفيد الاقتباسات الرقمية من «1984» أو غيرها في وضع خطة عمل حقيقة للتغيير، ولن تنفع السجالات الفيسبوكية عن تغيير ما تقاعست عنه الميادين مهما بلغ التشابه بين القصة والواقع، الرواية عظيمة بلا شك، لكن «أورويل» قد قال المزيد، وهو ما يستحق القراءة في هذه الأيام..