صناعة الخوف

صناعة الخوف

يخاف الأطفال من الأشباح التي تسكن عتم الخزائن. يخاف الأحياء من الأشباح. والجميع يخافون من الموت، ويخافون أيضاً من انتحاري لا يهاب الموت. ترتعب الفتيات من الفئران والأفاعي والصراصير والدبابير. يرتعب الناس من أفلام الرعب.

والرجل الأبيض يخشى مراهقاً أسود نظر له شذراً وهو يعبر ناصية الشارع. يخاف الأمريكييون تقريباً من كل شيء وكل الناس ومن 11 سبتمبر جديد. يخاف الجميع اليوم من داعش وغداً من «بعبع» آخر تبتدعه الحكومات وتتولى تسويقه وسائل الإعلام. يمسك الناس رؤوسهم خشية أن يقطعها سيف في الباص أو في مطعم الفول، دون أن ينتبهوا لعدد الأشخاص الذين نجحوا في الاحتفاظ برؤوسهم، ودون أن يعوا أن السيف أكبر من أن يتم إخفاؤه تحت قميص صيفي. يخاف الناس دائماً وكل يومٍ وطوال الوقت، بحيث لم يعد أحدٌ يشغل باله في تصنيف تلك المخاوف والحكم عليها. ليبدو لوهلة أن خطر صرصور خرج من بالوعة الحمام وأطلق حنجرة فتاة بالصراخ، يماثل خطر جيش محتل. كما لو أن مسبب الخوف لم يعد مهماً الآن، بل ما يهم حقاً هو العَرَض: خفقان القلوب والجلد المقشعر والأدرنالين الذي يتدفق سريعاً في الجسد. 

هل كان من الممكن ألا نخاف، وألا يوجد شعورٌ كهذا. ربما كان ذلك سيعني أن الحيونات الضارية قد تفترسنا دون أن «يغمض لنا جفن»، وأن جميع السيارات قد تصدمنا وتبعثرنا أشلاءً دون أن نشعر بخفقان القلب الذي ينبئنا بأن هناك خطراً قادماً. ألا يخاف المرء يعني ألا قيمة لشيء. لا خسارات، ولا دفاع عن الحياة، أو كل ما يهم. 

قد يكون الخوف شعوراً ضرورياً وغريزياً وأداة للدفاع، أو محطة للاستراحة قبل الهجوم على كل ما يخيف. لكن إن طالت الاستراحة، يتحوّل الخوف إلى هاجس. يغيب الضوء ويعتم المكان، تصفر الريح وتطير الأوراق في خواء لا نهائي، ويصبح المرء وحيداً، أعزل، أمام ما يظنه «الخطر»الذي يتقدم حوله بخطا ثابتة. 

يقال إن الخوف «سكن» النفس، وفي التشبيه بلاغة، كما في لفظ «استوطن»، لأنه يشي تماماً بحقيقة الحال. الخوف ضيفٌ ثقيل، يقتحم الروح دون إذن، ويسارع في إفراغ حقائبه، بحيث لا يترك مساحة لشعورٍ آخر. لا يترك فرصة لترتيب الأفكار المبعثرة أو الكلمات. 

أكثر ما يخيف في الخوف ربما، أنه شعور سهل التوليد. هو إحساسٌ يمكن زراعته بعد الاستفادة من جميع المخاوف والتجارب والذكريات، مع لمسة من الخيال الخبيث وسعة الأفق. يمكن للمخاوف أن تهاجمك وأنت في أكثر ملاجئك راحة وأماناً ، يكفي لفكرة عابرة أن تشتعل في رأسك، أن تلتقط كلمة رماها أحد المارة، أو تتذكر شيئاً مخيفاً حدث في زمان ومكان آخر. ولهذا ربما يتفاعل الناس مع الأفكار المجردة عن الخوف، ومع تصوراتهم عما يرعب، ويهدد، ويقتل. أكثر مما يختبرون اللقاء وجهاً لوجه مع مسببات الشعور الواقعية، التي قد تفقد شدتها وسطوتها بعد اللقاء الأول، وقد تضمر إلى حد الزوال. 

هناك الكثير مما يخيف. وكثر يريدون إخافتنا، بحيث أصبح إنتاج الخوف المهنة الأكثر رواجاً اليوم. إلا أن للمنتج مدة صلاحية محدودة بحيث يفقد أثره بتكرار الاستخدام. بعد ثلاث سنوات من الحرب، يكفي فقط أن ننظر للخلف حتى نكتشف حجم المخاوف التي تغلبنا عليها «بحكم العادة»، بحيث أمست هي روتيناً يومياً مملاً، وأمسينا نحن أكثر قوة.. جل ما نستطيع فعله اليوم، أن نخاف قليلاً فقط، وبالقدر الكافي. ونكشف مكامن الخطر الحقيقي. أن نربي صبياناً وفتيات صغاراً قادرين على التحديق في عيون السحرة والمهرجين والأشباح، يستطيعون أن يفتحوا باب الخزانة ويعبروا ممراً مظلماً حتى أخره.