«شغل وفن» أطفال النازحين في ضاحية قدسيا

«شغل وفن» أطفال النازحين في ضاحية قدسيا

مع اشتداد الأزمة في سورية وانتشارها على مستوى البلاد لتطال كل تفاصيل حياة المواطن السوري ولتصل الى تهديده في حياته وأمنه، واضطراره إلى النزوح من بيته نتيجة أعمال العنف والاشتباكات المستمرة، ظهرت مهمة جديدة أمام السوريين وهي مساعدة النازحين وتأمين المسكن والغذاء والدواء لهم، وهذا ما سارع اليه الشباب السوري في مختلف المناطق التي نزح إليها سكان المناطق الساخنة، ولم يقتصر عمل المتطوعين على تأمين الطعام والشراب وإنما ظهرت مبادرات عديدة بهدف العمل على الدعم النفسي لهؤلاء النازحين في محاولة لتخفيف وطأة الحدث المفجع الذي تعرضوا له من تركهم لبيوتهم وأحيائهم التي تحمل تاريخهم وذكرياتهم، ومن الموت الذي هربوا منه وقد يكون قد طال أحد أفراد أسرتهم، وغيره من المشاهد المفجعة التي حملوها معهم إلى الأماكن التي هجروا إليها.

من هنا نشأت العديد من المبادرات التي عالجت هذا الجانب واهتمت به، ومن أكثر المبادرات نضجا وأهمية من حيث الأثر والنتيجة التي حققتها كانت مبادرة محترف «شغل وفن» التي قامت بورشة عمل مع أطفال المهجرين في مدارس ضاحية قدسيا.

وكان نشاط المحترف مع أطفال المهجرين تطويراً لمفهوم ورشة «الاسمنت في التشكيل» ومحاولة لمساعدة هؤلاء الأطفال في الابتعاد عن ضغوطات أهلهم والأجواء السلبية المحيطة بهم، وترسيخ حالة إيجابية وجميلة تخفف وطأة الألم والمعاناة التي سببها النزوح لهم.

استمرت الورشة لمدة شهر في مدرستي (الضاحية الثانية- الإعدادية) في ضاحية قدسيا، واعتمدت على مراحل متعددة للوصول إلى المرحلة النهائية، وهي تشكيل عمل فني من مادة الإسمنت.

فبدأ الفريق عمله بمجموعة من التمارين مثل (ماذا أحب وأكره، مم أخاف، كيف أرى حارتي وبيتي....)، وتهدف هذه التمارين إلى تطوير الخيال، كسر الحواجز، تعزيز الثقة بالنفس، الشعور بالانتماء..

في المرحلة الثانية بدؤوا باستخدام الرسم كأداة للتعبير، فقام الأطفال بروي قصص ومن ثم رسم هذه القصص ومحاولة تلوينها.

المرحلة الثالثة كانت عملية تحضير للعمل بالاسمنت، حيث تم التوافق على قصة مشتركة من تأليف الأطفال، بالإضافة لتعريف الأطفال بمادة الاسمنت وكيفية التعامل معها.

أما المرحلة الأخيرة فقد تضمنت عمل الأطفال كمجموعات، كل مجموعة تجسد جزء من القصة المتخيلة في عمل إسمنتي واحد..

وفي حديثنا مع المشرفين على الورشة من فريق العمل، شرحت لنا وراد كدو أهمية هذا العمل مع الأطفال وتأثيره الكبير عليهم:»هؤلاء الأطفال خرجوا من بيوتهم الى المدارس ليكونوا محاطين بأعداد كبيرة من العائلات التي جاءت من بيئات مختلفة، وقد تعرضوا لعنف حقيقي لذلك لم يكن من السهل التعامل معهم، وكان المطلوب التفاعل معهم ومعالجة مشاكلهم (كالعزلة–الخوف– العنف)، وهذه التمارين التي قمنا بها تصب في محاولة كسر هذه الحالة من خلال مواجهتها والاعتراف بها لتتحول الى حافز ودافع ليتفاعل الطفل مع المحيط الجديد بشكل إيجابي، وليتحفز خياله الواسع الذي اغتنى أكثر نتيجة معاناته وتهجيره والعنف الذي شهده أو تعرض له».

وتتابع حول تجاوب الأطفال مع النشاط: «في بداية الورشة لم نكن نستطيع تجميع أكثر من 10 أولاد في الباحة ، ولكن مع مرور الوقت بدأ يزداد عددهم واللافت أن معظم الأطفال استمروا معنا حتى نهاية الورشة. وقد لاحظنا في البداية عنفاً كبيراً في تصرفاتهم مع بعضهم ولكن عملنا وتماريننا ساعدتهم على التقارب والتعاون فيما بينهم، وهذا ما أنتج تأليف حكاية تشكيلها في الاسمنت بشكل جماعي وليس كأفراد.

ومن أكثر الأمور أهمية في جذبهم والتعاطي معهم هو الصدق والتعامل معهم على أنهم أذكياء ولهم شخصيتهم المستقلة والواعية، خاصة أن ما تعرضوا له من ظروف قاسية فعلا عملت على إنضاج شخصياتهم، فالطفل عموما لا يحب أن تتعامل معه على أنه طفل وإنما يتفاعل معك عندما تتعاطى معه على أنه ند لك وعندما تحترم عقله ورغباته وأحاسيسه، وهذا ما تحقق في الورشة حيث أنه في البداية كان يوجد حالة خجل أو محاولات سخرية من الأطفال على بعضهم البعض، ولكن مع الوقت بدؤوا يشعرون بالمسؤولية تجاه التمارين والمهمات المطلوبة منهم».

وفيما يتعلق بكيفية تطبيق التمارين المقترحة مع الأطفال، أضافت: «حاولنا أن نتناول قصة لها أساس ليس بعيدا عن واقعهم ولكن بشكل غير مباشر، بالإضافة إلى التركيز على تمارين الاسترخاء وتوسيع الخيال، ثم وصلنا معهم الى كيفية تأليف حكاية فكانت النتيجة حكاية مدينة السمك التي هدمتها الأمواج، فتعاونت السمكات على استطلاع المكان لحل مشكلتهم واستعانوا بالحوت ليأكل الشمس ويبنوا بداخله مدينة أخرى أجمل من سابقتها».

مهند ديب (مدير محترف «شغل وفن» وصاحب مبادرة «الاسمنت في التشكيل») يتحدث عن ضرورة الاستفادة من هذه التجربة: «يجب اعتماد هذا النمط من العمل مع الأطفال وإيجاد مراكز أهلية- ليس فقط في فترة الأزمة- تعمل بهذا المجال مع الأطفال وتقوم بدور تربوي وتعمل على بناء وعيهم بمفاهيم إيجابية وبناءة بشكل غير مباشر وبشكل عملي دون حالة التلقين المعتادين عليها، فتساهم هذه العملية بتعزيز حالة انتماء الطفل للمجتمع والدولة التي من المفروض أن ترعاهم وتهتم بشؤونهم».

وفي رصدنا لانطباعات الأطفال حول هذا النشاط لاحظنا الطاقة الإيجابية الكبيرة التي يعمل بها الأطفال لإنجاز عملهم، وسعادتهم بما أنجزوه، ورغبتهم في عرض نتيجة عملهم حتى يراها الناس.

قد يتساءل البعض ما أهمية النشاطات الفنية اليوم مع الأطفال المهجرين في حين أن الأهم هو التركيز على الطعام والدواء والحاجات الأساسية ؟!!

أعتقد أن النتائج التي شاهدتها والتي لمسها كل المتواجدين في مدرسة ضاحية قدسيا (أهالي – أطفال–متطوعون) تثبت على أهمية هذه النشاطات وضرورتها الموازية لضرورة الطعام والشراب، فالعمل الذي أنتجه هؤلاء الأطفال والذي علقوه على حائط المدرسة سيبقى ليذكر طلاب هذه المدرسة بأن أطفالا من مكان آخر عانوا وقاسوا الكثير من الآلام قد مروا من هنا!.