من ذاكرة انتفاضة الحجارة
نصر جميل شعث نصر جميل شعث

من ذاكرة انتفاضة الحجارة

يومها أخرجوا المدارس لتشييع شهيد. و كالعصافير جرى التلاميذ إلى البحر حيث المستوطنات هناك. وبدأنا برمي الحجارة على أبراج الاحتلال العالية، وأصيب منا من أصيب.

رجعت إلى البيت سالماً وينتابني شعور بالنقص لأن أضرابي من التلاميذ أصيبوا أو استشهدوا.. ألقيتُ بحقيبة المدرسة  في الصالون، وكانت الأحداث مستمرة. ولما جئت أخرج ثانيةً صرخت عليّ أمي: «لا تذهب لبعيد.. روح هات جرة الغاز من دكانة موسى».  و خرجت بذريعة الجرة.

كانت الأحداث على أشدها. في كل ناحية رشق للحجارة ومطاردات «جيبات» حرس الحدود «مشمارهقفول» للمتظاهرين. وبالمصادفة وجدتني أجري مع اثنين من أبناء عمي، ووراءنا تماماً جيب لحرس الحدود. ولأننا لا نملك أجنحة لم نطر. كنا وصلنا حارتنا، ولكن مازال لدينا خمس دقائق من الجري لنصل بيوتنا. خانتنا أجسادنا الرياضية، فلجأنا لطلب الحماية في دكان الحاج «موسى النجار». ونزل الجنود خلفنا. قبضوا علينا. أحدهم أخذ عكاز الحاج موسى، وانهال علينا بالضرب على كل مكان في أجسادنا.

جنديّ آخر دفع الحاج وأوقعه وحمل مصفوفات البيض وكسّرها علينا. أخذونا في الجيب وداروا بنا ساعة على أطراف خان يونس، ولم يكفوا عن التسلّي بنا.. استهدفوا مفاصل أجسادنا بكعوب البنادق. كنا معصوبي العيون ومقيدي الأيدي. كومونا على بعض في زاوية الجيب. أنا أبكي وفم ابن عمي «أشرف» على أذني، كان يقرأ قصار السور والأدعية على نفسه وعليّ.

في المركز العسكري، الذي تحول بقدوم السلطة لمدرسة تحمل اسم «أبو يوسف النجار»، فرزونا بحكم السنّ: أنا بعمر 14 سنة، وأشرف بعمر 15 سنة. أما ابن عمي الثاني جودت فحوّل لمكان آخر لأن عمره كان فوق الـ18. لكنهم أوقفونا صفّا واحداً وكان معنا عشرات المعتقلين من الأطفال والشبان. مع طول الصفّ كان يمشي ضابط غليظ يتكلم العربية، وقف وسألني: «ليش بتحدف حجار على الجيش»، قلت له: «كنت رايح أجيب جرة الغاز». بصق في وجهي و ضرب الذي بعدي كفاً.

وضعوني أنا وأشرف في غرفة توقيف ضيقة وقذرة. في الغرفة، صرنا ننظر إلى بعض.. نبكي ونصمت. وفجأة نضحك بشكل هستيري. سمعنا مجنّدة تغنج مع مجند وكانا يقتربان من باب الغرفة، سمعنا صوت نهنهات القبل على الباب الذي فتحه الجندي ظناً منه أن لا أحد في الغرفة، كي يأخذ فرصته ويمارس الذروة معها. واستطعنا رؤية صدرها الطافح المكشوف، لكن الجنديّ تفاجأ بنا كلعنة، بصق علينا ورطن بالعبرية الشتائم وأغلق الباب. قلت لأشرف بنبرة طفل يفكّر بالانتقام والجندي يغلق علينا الباب: «تعال نقتل الجندي ونـعمل الـ(....) مع المجندة وضحكنا.

بعد نصف ساعة جاء جندي وأخذنا إلى غرفة الكابتن يوسف. بدأ يوسف باستجوابنا والشتم علينا. قال لي أعطني رقم تلفون أهلك، وأعطيته رقم تلفون لابن عمي المحامي غسان. اتصل به وقال له أمامنا: «في هدية لكم عندي تعالوا خذوها». وأخبره أن نصر وأشرف محتجزان وسيحبسان ويرحلان إلى سجن النقب إن لم يحضر أهلهما. بعد ساعة وصل أبي وغسان وبعض الأقرباء. أوّل ما رآني أبي بيد متورمة ووجه مجروح كابن عمي، من تألمه نفخ على يده وضربني أمام الكابتن كفّا، وقال له الكابتن: «يا حج هسا جاي تربّي ابنك!». وأجبر الكابتن أبي على التوقيع على تعهد بعدم تكرار ذلك، ودفع غرامة قدرها 1000 شيكل، هي كبيرة يومها على أب مسن لا يعمل. وإلا سأحبس أسبوعا. ودفع أبي الغرامة، لاقتراب موعد تقديم الامتحانات النهائية، وكنت في الصف الثاني الإعدادي.

أما أشرف فحبس أسبوعاً لتعذّر دفع أهله الغرامة. وأشرف عاش الدور، كان في كل زيارة يومية يقوم بها ابن عمي المحامي غسان، يطلب منه إحضار السجائر. أما جودت فحوّل إلى سجن النقب وحكم عليه بالسجن سنة. بعد التعهد بدفع الغرامة، فـُكّ أسري، وأخذوني إلى مسشفى ناصر (نسبة إلى جمال عبد الناصر) في غرب خان يونس، وصوروني وكنت أعاني من كسر خفيف في يدي ورضوض ووجع عظام.

*****

كان ذلك في الانتفاضة الأولى وأنا في الصف الثالث الإعدادي. ظهيرة يوم كانت المواجهات مع الاحتلال في خان يونس مستمرة كعادة يومية. وعلى مدار يومين متتاليين كنت أنا السباق في إخبار أهل ابن الجيران «محمد» و أهل ابن عمي «أشرف»، عن إصابة الأخيرين بالرصاص الحيّ.

الاثنان أصيبا أمامي من قناص كان يعتلي بيتاً لعائلة اللحام يقع على المحور بين مخيم خان يونس والبلد.  في اليوم الثالث بالضبط، لشدة غيرتي، حدست، لئلا أقول تمنيت، بأنني سأصاب في ذلك اليوم. ودفعني حدسي لأن أحدّث نفسي وأقوم بعمل احتياطات تقيني الخجل ليس من الرصاصة بالطبع. إذ كنت أرتدي بنطال جينز وتحته «كيلوت» مخروق. قلت لنفسي: إذا أصبت سيشلحني المسعفون ويروا الخرق. ومن جدّ عقلي دخلت الحمام، لبست «شورت» طويلا فوقه، ثم لبست الجينز، وخرجت إلى البلد. ولا أعرف، إلى الآن، لماذا لم أحدس بأني سأصاب في الرأس أو القلب؟

على سطح بناية صفراء أول شارع البحر كان قناصة وتحت البناية يعسكر جيب عسكري. رشق الحجارة مستمر كالمطر على الجيب والبناية. والمكان يعجّ بالشبان وسيارات الإسعاف لنقل الإصابات إلى المستشفى. إصابات كثيرة كانت على مرأى عيني، فيما الحجارة في يدي. كنت أشارك رغم صغر سني في الجري لحمل المصابين. إلى أن رأيت حدسي بكل يقين موجع.

سدّد القناص رصاصة متفجرة من نوع «دمدم» إلى فخذ رجلٍ أربعينيّ بدين كان يقف بعيداً قليلاً أمامي اسمه «علي شراب»، و رغم أن عليّاً أطول مني بحكم السنّ إلا أنني لا أعرف كيف أكملت الرصاصة طريقها، أيضاً، إلى لبّ فخدي فوق الركبة بعشر سنتمترات تقريباً، بعيداً عن العصب؟

وحملونا أنا وعلي في الإسعاف. من ألمي الشديد والدم ينزل أو من فرحتي بتحقّق شعرية الإصابة الحقيقية، ضحكتُ في وجه «علاء»- شاب من أقرباء أمي- لحظة إغلاق المسعف باب الإسعاف ليطير بنا إلى مستشفى ناصر. وصار علاء يضحك أيضا ويقول: «ماكل طلق وبتضحك!». لا أعرف من أخبر أهلي عن حدث إصابتي، ربما علاء!

لفّ الأطباء جرحي ولم يخرجوا الشظايا التي ما تزال في جسمي وأتحسسها إلى الآن. ومنها شظية سرحت إلى فوق في مكان مخجل. كان أهلي قد وصلوا المستشفى، ووقفوا على تصويري في غرفة التصوير الإشاعي. وبعد ساعة خرجت من المستشفى لكثرة الإصابات وقلّة الأسرة. أوّل ما وصلت البيت، صرخَتْ علي أمي و بكت و وبختني بنبرة خوف مبرر. و عملت لي عصير ليمون شربته والناس فوق رأسي تطل علي.