ادوارد سعيد بين الاستشراق والثقافة و الامبريالية 1\2

ادوارد سعيد بين الاستشراق والثقافة و الامبريالية 1\2

في ليلة صيفية دمشقية، وتحت وطأة ضجيج مقهى الروضة الدمشقي، كان اكتشافي لآخر عمل فكري للمفكر الفلسطيني المدهش ادوارد سعيد، تحت عنوان «الثقافة والامبريالية». إدوارد سعيد الذي يعَدُّ من أهمّ المثقفين الاجتماعيين في العالم، ليس لكونه ناقدًا أدبيًا مرموقًا فحسب، 

بل تعدت اهتماماته إلى السياسة والجوانب المعرفية المتعددة و الواسعة، وتمحور جل اهتمامه حول القضية الفلسطينية والدفاع عن شرعية الثقافة والهوّية الفلسطينية، وعن عدالة هذه القضية وحقوق الشعب الفلسطيني، كما تتركز اهتماماته والموضوعات التي يتناولها على العلاقة بين القوة والهيمنة الثقافية الغربية من ناحية، وتشكيل رؤية الناس للعالم وللقضايا من ناحية أخرى، ففرض نفسًه بكتاباته المتشعِّبة على عدد كثير من المواضيع، لكن، ما من كتاب شمل المدى الباهر، لمعرفته الواسعة والمثيرة مثل كتاب «الثقافة والإمبريالية» الذي اعتبره الباحثون الجزء الثاني من كتاب «الاستشراق» الذي زود المتلقي بنقد العلوم والأفعال الإمبراطورية.

إلا أن الثقافة والإمبريالية ركزت على القراءة وتفسير الشكل الفني الغربي، ضمن ما يُعرف بالعلاقات الثقافية المتداخلة، بالذات العلاقة بين الإمبريالية المهيمنة، والثقافة خاصة، أثناء الاستعمار الفرنسي والبريطاني في القرن التاسع عشر، والذي عُدّ تاريخياً من مغامرات البشرية المهمة، حيث تم بتلك الفترة اجتياح المسارب الثقافية المختلفة، من الرواية والأوبرا والشعر، حتى أجهزة الإعلام كما وضح في دراسة «الاستشراق «، لذلك أصبحت الثقافة فن المؤسسات الإمبراطورية، التي تعيد تركيب المشاعر وتمنح المستعمر شعرية كبرى للهيمنة والسيطرة.

أتى هذا الكتاب، ليحمل معه الإجابة عن السؤال القديم الذي كان يدور في أذهان الجميع، ماذا كان دور الثقافة في نشأة الامبريالية وظهور الاستعمار منذ القرن التاسع عشر، وماذا كان دور الثقافة كذلك في مقاومة تلك الامبريالية وذلك الاستعمار؟ وهذا السؤال الهام سبق ان طرحه الكثير من المثقفين من كل أنحاء المعمورة، وحاولوا الإجابة عنه لكن بصورة منفردة، لم تعط هذا الموضوع ما يستحقه من درس وتمحيص وتعمق، ولم يخصص له أحدهم كتاباً ثقيلاً من هذا الحجم، وكان السبب هو أن المؤرخين الذين أرخوا باستقرار الإمبراطوريات، كانوا مؤرخين بالمعنى التقليدي أي هم ذاتهم القائمون بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحركات التاريخ وتحولاته الكبرى، ولم يمنحوا أي عناية بالعامل الثقافي الذي يشكل أهمية كبرى، لأن الثقافة في ضمائر الأمم وذاكرتهم صانعة المخيلة الجماعية ورد الفعل الشعبي فالثقافة عمل يؤدي وظائفه بإدارته المعروفة الظاهرة مثل الأدب والفن والتعليم وبأدواته الخفية الباطنة مثل الفلسفة والتاريخ والدعاية والإعلام والتراث الشعبي.

فكانت الثقافة الغربية ومفرداتها، برأي ادوارد سعيد، هي عبارة عن منظومة واسعة الأطراف، متنوعة اللغات متشابكة الروابط ، وأركانها الأساسية التجارب الإمبريالية البريطانية والفرنسية والأمريكية، التي ملكت تناسقاً وتماسكاً فريدين، ومركزية ثقافية متميزة، نتج عنها تسلطية مكشوفة أو غير واضحة، ضد الأعراق والقوميات والثقافات والهويات الأخرى، ومن هنا يأتي تأكيد سعيد بأن ما أغفله في «الاستشراق»، هو تلك الاستجابة للسيطرة الغربية التي توجت بالحركة العظيمة، لفكفكة الاستعمار عبر العالم الثالث بأسره، فرافق المقاومة المسلحة في أماكن متباينة مثل الجزائر وإيرلندا وإندونيسيا في القرن التاسع عشر، التي رافقها تأكيد الهوية القومية لكل عرق، ورافقها في المجال السياسي تكوين الروابط والأحزاب التي تسعى إلى هدف مشترك، هو تحقيق الاستقلال عن تلك المنظومة، عسكرياً وسياسياً وثقافياً.

هذا الكتاب لم يكن مجرد امتداد لكتابه «الاستشراق»، بل يهدف إلى دراسة إنتاج الاستعمار الغربي الحديث، لأشكال ثقافية في القرنين التاسع عشر والعشرين، كالرواية، فالرواية كشكل من أشكال الإنتاج الثقافي، كانت هامة، بل أكثر من ذلك فقد وصفها ادوارد سعيد بأنها المشروع الجمالي الذي تمثل علاقته بالمجتمعات المتوسعة استعمارياً لبريطانيا وفرنسا، ويؤكِّد ادوارد سعيد، في الفصل الثاني من كتابه ، رؤيته القائلة إنَّ الرواية الغربية والإمبريالية حصّنا أحدهما الأخر، بحيث بات من الصعب الفصل بينهما -أي بين الرواية والامبريالية - في أيِّ بحث نقدي، وذلك لأنَّ الرواية في أوروبا ، ارتبطت بشكل وثيق بالطبقة البرجوازية، فعند البحث في الرواية الإنجليزية في القرن التاسع عشر، فإنَّها مثلا لا تدعو أبدا للتخلي عن المستعمرات، بل نراها تمارس دوراً استعلائياً في الادِّعاء بأنَّ رجال الإمبراطورية وثقافة الإمبراطورية، هي الأمل الوحيد أمام الأصحاب الأصليين للمستعمرات، وكأنما تلك الشعوب بدون مخزون ثقافي حضاري، وكان كبار مثقَّفيهم يعبِّر بطريقة أو بأخرى بأن انجلترا ينبغي لها أن تحكم العالم، تحت ذريعة أنها الأفضل والأنبل، ومن أهم النماذج تلك وجده ادوارد سعيد في «ربونسون كروزو» تلك الرواية التي تدور أحداثها بعيداً عن المصادفة، وتتحدث عن أوروبي يخلق لنفسه إقطاعية على جزيرة غير أوروبية نائية.

ويقول ادوارد سعيد، إن الامبريالية استقرت بالثقافة، وخلقت الثقافة المقاومة، وهو عبارة عن صراع بين الأمم الغالبة والأمم المغلوبة، بمفهوم العلامة ابن خلدون، فالأمم الغالبة هي التي منحت لنفسها حق احتلال أمم مغلوبة وقهرها وإذلالها، لذلك استخدمت الثقافة الامبريالية إما لتبرير طغيانها أو لتمرير مخططاتها، و لأمم المغلوبة فلم يكن هناك سبيل لتحريرها إلا عن طريق الثقافة، التي أنتجت الوعي وأيقظت الحس الوطني، لرفض الاستعمار، والسعي نحو الاستقلال

آخر تعديل على الإثنين, 31 آذار/مارس 2014 14:58